هل السياسة هي فن التخدير عبر التنظير الذي لا أساس له على أرض الواقع؟!
أظن أن حقيقة علاقة السياسة بالتخدير باتت واضحة المعالم في إطار سلسلة الإصلاحات الخيالية التي أجراها – وسيجريها – حيدر العبادي، رئيس الوزراء في عراق التنظيرات والتخديرات والتحذيرات.
قصة الفساد بدأت ملامحها تتضح مع أول ثمانية مليارات حصل عليها العراقيون في زمن الحاكم الأميركي بول بريمر، التي قدمها الأميركان كمعونات لإعادة إعمار البنى التحتية التي خربتها قنابل وصواريخ قوات التحالف الدولي المحتلة، لكن تلك المليارات اختفت، ولم يعرف مصيرها إلى اليوم، ومن ساعتها صار العراق أكبر بلدان الفساد المالي.
ويبدو أن غالبية من تعلموا فنون السياسة خارج العراق من " المعارضين" للحكم السابق، تلقوا دروساً - في دورات موازية - في فنون السرقة والنهب والتحايل على الجمهور والمال العام!
الفساد في العراق لم يقف عند حدود نهب الأموال، بل إن حدوده وصلت إلى مشاريع وعقود وهمية، ومعتقلين خياليين، وجنود فضائيين، ووفود مزيفة، وغيرها من صور النهب والسرقة والتزوير.
الارتباك في عموم الملفات دفعت العراقيين للمضي في مظاهرات سلمية منذ قرابة شهرين، مطالبين فيها بتنقية البلاد وتنظيفها من السرّاق والفاسدين - بغض النظر عن مناصبهم وعناوينهم - وهذا ما دفع حكومة العبادي لإعلان حزمة إصلاحات "شكلية" لتخدير المتظاهرين وإسكاتهم، ومنها إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والوزراء، وإلغاء أربع وزارات (منها وزارة حقوق الإنسان)، ودمج أربع أخرى مع وزارات، دون استشارة الكتل السياسية، وبعضها اتهمته بالاستهداف المقصود، وعند البدء بتطبيق القرارات ظهرت أمام العبادي مشاكل سياسية وقانونية وإدارية!
واليوم- وبعد شهرين من المظاهرات- خرج المتظاهرون يطالبون العبادي بعدم الاستمرار بحزم الإصلاحات الوهمية، وبضرورة تطبيق إصلاحات حقيقية يقاد بموجبها القتلة وسرّاق المال العام إلى محاكم عادلة، وهذا ما لم يحصل على الرغم من حصول العبادي على تفويض برلماني يمكنه من اتخاذ قرارات جريئة وحازمة، إلا أن الرجل يبدو أنه ما زال في مرحلة التردد، والوقوع تحت الضغوط السياسية والدينية والاجتماعية من هذا الطرف السياسي والمنتفع أو ذاك!
التردد الحكومي، والربكة الإدارية والضغوط الشعبية والسياسية دفعت رئيس البرلمان سليم الجبوري للتشكيك في السرعة التي تسير بها الإصلاحات، مهدداً في ذات الوقت بأن" البرلمان قد يعيد النظر في التفويض الذي منحه للحكومة بشأن إتمام عملية الإصلاحات".
الحكومة ورغم وعودها بالإصلاحات إلا أنها تناقض نفسها في أسلوب التعامل مع المتظاهرين، حيث أطلقت قوات مكافحة الشغب الحكومية النار قبل يومين على متظاهرين سلميين في بابل، وقبلها في البصرة وكربلاء، وهو ما زاد من قلق منظمي المظاهرات الشعبية في بغداد والمحافظات الأخرى، وهذا أكبر دليل على زيف الديمقراطية في بلاد الرافدين!
العبادي – وفي محاولة لتبرير عدم جدية إصلاحاته - اتهم بعض السياسيين - الذين تعرضت مصالحهم للضرر بسبب القرارات التي اتخذها من أجل محاربة الفساد- بمحاولة "تجميع قواهم لتعطيل هذه الإصلاحات"!
وضوح شكلية الإصلاحات دفع مجلة إيكونومست البريطانية قبل أسبوع للقول، بان" قليلاً من العراقيين يرون أن لدى العبادي فرصة كبيرة للنجاح في مساعيه للإصلاح، وأن بعضاً آخر منهم يرون أن هذه الإصلاحات مجرد حبر على ورق، وأن عدداً كبيراً من المسؤولين العراقيين متورطون في الفساد، وأن هناك عثرة أخرى في طريق الإصلاح تتمثل في المليشيات المسلحة المدعومة من إيران، وأن العبادي يظهر باجتماعات حزبه وهو ما زال متمسكاً بهم، وهم رموز الفساد، وكان الأجدر به أن يستقيل من حزبه، ومن هذا التحالف لأنهم سبب الفساد، وكل المصائب التي حلت بالعراق".
أساس المشكلة العراقية أن غالبية الفاسدين متنفذون، وعليه فإن محاولة الإطاحة بهؤلاء يعني الدخول في مرحلة الفضائح الحزبية، وهذا يكبّل كافة الزعماء الحزبيين، ومنهم السيد العبادي، وعليه ينبغي التحرر من عباءة الحزبية، ثم الانطلاق في مركب الإصلاحات، لتشمل كل الفاسدين دون استثناء!