حروب أدلة الهوية

صلاح المختار

من يحلل الصراع المحتدم الان لن يستطيع تجاهل اقوى واخطر صورة  ‏تفرض نفسها ، رغم كل محاولات الخداع بترويج صور اخرى مبهرة ومضخمة ‏ومحاطة بالضجيج والدعايات المضللة، وهي صورة صراع الهويات، فنحن ‏امام صراع هويات احداها اصيلة وهي الهوية القومية العربية وثلاثة مزيفة او ‏ملفقة وهي هويات تتميز بانها تنهب من الهوية الاصيلة والاصلية وتنسبه اليها، ‏وهي الهوية اليهودية التوراتية المعتاشة على امتصاص الهوية العربية ونهبها ‏من كافة الجوانب بما فيها الملابس والاكل وليس الارض والمقدسات فقط‏، والهوية الفارسية المتعملقة باضافة هويات اخرى اليها بالاستعمار، والهوية ‏الأميركية القائمة اصلا على التلفيق وابادة الاخر من اجل فرض هوية بالقوة ‏والاغراء، فكل من هذه الهويات ليست اصيلة وانما هي منتحلة وقائمة على ‏السطو على مكونات هوية العرب بالنسبة للفرس واليهود وهويات العالم ‏بالنسبة لأميركا. 

ولكي نقطع الشك بالقين نوضح الحقيقة السابقة فالهوية (الاسرائيلية) ‏محض تزوير لانها ملفقة اساسا ومن كشفها يهود اصلاء قبل غيرهم ومنهم يهود ‏‏(الناطورا كارتا) الذين اكدوا ان اليهود الذين يحتلون فلسطين الان اغلبهم من يهود ‏الخزر وهم اقوام دخلوا اليهودية متأخرين لاسباب سياسية وهم بناء على ذلك ‏ليسوا يهودا اصليين، بل ان الناطوري كارتا ترفض اعتبارهم يهودا ، وهذا ما بحثه ‏ايضا الكاتب اليساري البريطاني اسحق دويتشر في كتابه (القبيلة الثالثة عشر) . ‏فماذا يفعل من يفتقر للهوية مع انه يحتاج اليها جواز مرور يخترق الحواجز ‏المانعة لأصالته؟ سرقة هوية الاخرين وبالذات الهوية العربية الفلسطينية ‏ومكوناتها الثقافية والتاريخية . ‏

اما الفرس فهم ونتيجة لمطامعهم الامبراطورية اضطروا لتوسيع عدد ‏سكان دولتهم وتعظيم مواردها باستعمار  قوميات اخرى غير فارسية كالقومية ‏العربية في الاحواز المحتلة والقومية الكردية والقومية الاذرية والقومية البلوشية ‏وغيرها، هذه القوميات الخاضعة للاستعمار الفارسي تمتلك كل منها هوية قومية ‏متميزة بلغتها وتراثها وتقاليدها وثقافتها لكن الفرس فرضوا عليها وبالقوة الفاشية ‏نظام التفريس من جهة، وسرقوا مكونات قومياتها الثقافية كاللغة والانجازات ‏الحضارية من جهة ثانية، اضافة لتسخير موارد الاحواز النفطية والغازية ‏ومياهها لحل جزء كبير من ازمتي بلاد فارس الخطيرتين والمعروفتين وهما ازمة ‏المياه الشحيحة جدا وازمة قلة الاراضي الزراعية .‏

استعمار قوميات اخرى احد اهم متطلبات تلفيق هوية قومية ايرانية ‏غير موجودة تركب فوق القومية الفارسية القاصرة عندما يتعلق الامر ‏بالتوسع الامبراطوري، وهذا التركيب المصطنع لهويات متعددة فوق هوية ‏ناقصة القدرات على التوسع هو المصدر الاساس لزيف الهوية الايرانية ‏الحالية وهشاشتها والذي يخفى بعنف متطرف يمارسه العنصريون الفرس ‏ضد الثائرين من القواميات المستعمرة . ‏

ازمة الهوية في (اسرائيل الشرقية) خطرة ويمكن ان تتفجر في اي مرحلة ‏بمجرد حصول خلل كبير في قدرة السلطة على ممارسة القمع الدموي، وهذا ما ‏لاحظناه مثلا عندما نجح العراق في عام 1988 في تحطيم القدرات العسكرية ‏والاقتصادية والبشرية المقاتلة لـ(اسرائيل الشرقية) وبدأ الجيش العراقي بالتوغل في ‏العمق الايراني لاجبار خميني على وقف اطلاق النار ، ومن جهة ثانية توغلت ‏قوات مجاهدي خلق في العمق الايراني وكان بامكانها الوصول الى العاصمة لولا ‏قبول خميني مجبرا تجرع سم الاعتراف بالهزيمة امام العراق.

في تلك الفترة ظهر ‏واضحا ان (اسرائيل الشرقية) وبعد ان ارتخت قبضة العنف الفاشي للنظام ‏اصبحت معرضة للتفكك وتحرر القوميات المستعمرة . هنا برزت لكل مراقب ‏ازمة تلفيق هوية ايرانية بكامل مخاطرها ولم يعد ممكنا اخفاء الطبيعة ‏الاصطناعية للكيان الايراني الحالي بوجوده كدولة وبمكونات هويته المتنافرة .‏

اما أميركا فهي الاشد افتقارا للهوية من اي بلد اخر في العالم ، فلئن كانت ‏فارس وهي مركز المستعمرات الايرانية لديها هوية فارسية واضحة حاولت عبر ‏التاريخ توسيع نطاق حكمها باستعمار قوميات اخرى ، ولئن كان اسرائيل الغربية ‏لديها اساس توراتي حتى ولو كان مزيفا سخرته لفبركة هوية بالسطو على الهوية ‏العربية الفلسطينية فان أميركا اصلا بلا اي هوية متبلورة وتفتقر حتى لاساس ‏هش للهوية القومية لانها عبارة عن مجاميع مهاجرين من بريطانيا كفروا بهويتهم ‏البريطانية والتي هي الاخرى هوية مزيفة قامت على استعمار قوميات عديدة من ‏قبل القومية الانكليزية كالقومية الايرلندية والتي مازالت قضيتها حية والان تبرز ‏قضة استقلال سكوتلاندا .‏

للتغلب على ازمة الهوية فان أميركا جعلت ستراتيجيتها العالمية تقوم ‏على جعل كل دول العالم على شاكلة أميركا بتفتيت الهويات القومية للامم  ‏العريقة كالعرب والصينيين والروس والفرنسيين والالمان ، فتفتيت تلك ‏الهويات يتيح لها تطبيق ما تسميه (نشر القيم الأميركية في العالم) اي ‏تفكيك مصادر وقواعد ارتكاز الامم العريقة والحقيقية  وتماسكها  بضرب ‏هوياتها  وتقاليدها بما في ذلك تقاليد الاكل واللبس والتصرف .‏

أميركا ليست اكثر من شركة  كبيرة تمتد على مساحة قارة وهي شركة بالغة ‏التعقيد والفرادة من بين كل شركات العالم العادية، الحاجة المادية للعيش لدى ‏المهاجر اجبرته على التعايش مع مشروع اقتصادي صرف عده مكان اقامة وليس ‏امة حقيقة وهكذا فنجاح مشروع أميركا الرأسمالي في التوسع السريع كان سببه ‏ثراء القارة الأميركية واعتماد الاوربيين الذين سيطروا على القارة على العنف ‏المتطرف والغزوات الخارجية لنهب ثروات الاخرين وليس لانها تملك هوية امة  ، ‏وهنا تكمن هشاشة ما يسمى ب(الهوية الأميركية) فهي ما ان تتعرض للضغط او ‏التهديد حتى تنهار بسرعة وبلا اي مقاومة حقيقية .‏

أميركا اليوم وبعد اكثر من 200 عام مازالت عبارة عن شركة كبرى فريدة ‏ضمت ملايين الناس الساعين للرزق ولكنها عجزت عن دمجهم في هوية طبيعية  ‏مشتركة تتجاوز المصلحة الفردية لان الهوية الوطنية ليست قرارا اراديا يفرض ‏بالقوة او باغراء المصالح المادية الصرفة ، كما هي حال أميركا ، بل هي نتاج ‏تفاعلات تاريخية واقتصادية ونفسية وثقافية كبرى تستمر لمئات السنين ‏وليس لعشرات السنين  مثل الامم الاوربية العريقة كالمانيا وفرنسا ، والامم ‏الاصيلة احتاجت  لالاف السنين كي تبلور هويتها القومية كالعرب والصينيين . ‏

يمكن لاي انسان ان يتيقن من الافتقار للهوية الأميركية بمجرد طرح سؤال ‏على اي أميركي وهو من اين انت ؟ سيرد عليك انا فرنسي او انكليزي او صيني او ‏عربي الاصل وليس أميركيا ، فهذه الهويات الاصلية مازالت قائمة وحتى عندما ‏اضعفت بحكم العيش لعدة اجيال فان الهوية البديلة والواضحة لم تنشأ بعد ‏لهذا فان احدى اهم مشاكل أميركا والتي اخذت تظهر بصورة متزايدة مع ‏تراجع الرفاهية الأميركية وبدء عصر العوز والفقر وتقلص الطبقة الوسطى ‏الأميركية هي ازمة الهوية حيث ارتدت الجاليات الى هوياتها الاصلية بعد انهيار ‏الخطر السوفيتي .‏

ولعل نظرية اصطناع صراع خارجي هي افضل تعبير عن غياب الهوية ‏الحقيقية فطبقا لصموئيل هنتنغتون المفكر الأميركي في نظريته الشهيرة (صراع ‏الحضارات) فان أميركا بحاجة دائمة لعدو خارجي يهدد مواطنيها كي تستمر وحدة  ‏مواطنيها واذا غاب العدو الخارجي فان المكونات المتنافرة لأميركا سرعان ما تظهر ‏وتتغلب على فكرة المواطنة . وبناء عليه اكد بانه بعد زوال الاتحاد السوفيتي ‏اخذت أميركا تواجه مشكلة الهوية بقوة من خلال تعاظم ارتباط مواطنيها ‏باصولهم القومية اكثر من ارتباطهم بمواطنين أميركيين من اصول اخرى ‏وللتغلب على هذا التهديد الخطير لمستقبل أميركا دعى الى اصطناع  عدو ‏جديد وخلق صراع  اخر واختار الاسلام ليكون العدو البديل عن الشيوعية .‏

فماذا تفعل أميركا الشركة وقد بنت اعظم اقتصاد وتكنولوجيا بفضل ‏شراء كفاءات الشعوب الفقيرة كالهنود والباكستانيين والعرب وغيرهم وبنت ‏قوة عسكرية فريدة لحماية الشركة ؟  شرذمة الامم الاخرى وتحويلها الى ‏فسيفساء لا تربطها هوية قومية كما هو حالها فرأينا خطط أميركا المنفذة ‏عالميا تبدأ بترويج النزعة الفردية المتطرفة وتستخدم هويات ما قبل الامة في ‏كافة انحاء العالم لاحياء ما مات من هويات او اصبح متنحيا وضعيفا مثل ‏الطائفية والصراعات الدينية والعرقية والمناطقية. انه سعي لتفكيك العالم ‏برمته  ليكون على شاكلة أميركا بلا هوية واضحة تربط المواطن بقوة معنوية ‏وبتراث ثقافي ولغوي يبسط الصورة ويربط بين المعاني والافكار ويوفر للانسان ‏القدرة على فهم دقيق  لماهيته وبلا التباسات تراكم الهويات الفرعية ‏وتناقضها .  ‏هنا نواجه اكبر ما يهددنا نحن العرب مثلما يهدد بقية الهويات الاصيلة في ‏العالم ولكننا وفي هذه المرحلة الهدف المباشر لتنفيذ خطط الشرذمة بالاحياء ‏المصطنع لهويات اندثرت او تحولت الى جزء من هويات طبيعية نمت وتطورت ‏عبر القرون ، والامم الاخرى تنتظر دورها بعد اكمال شرذمة الامة العربية ولعل ‏الانتقال الأميركي الى الصين والتركيز عليها ليس سوى تمهيد لشرذمة الامة ‏الصينية .‏

من لا يأخذ هذه الملاحظات بنظر الاعتبار لن يستطيع فهم ما تقوم به ‏أميركا مستخدمة الاسرائيليتين الغربية والشرقية في اكمال عمليات شرذمة ‏وتقسيم الاقطار العربية فهذه الاطراف الثلاثة تقع تحت اجبار البحث عن ‏هوية ولو زائفة تقوم على انقاض هويات اصيلة تدمر بمخططات موضوعة ‏سلفا ، وفي ضوء ذلك نرى الان وبوضوح اكبر الطابع الوظيفي لقيام (اسرائيل) ‏الغربية والمتجاوز لنطاق ارض الميعاد التوراتية ، ونرى الطابع الوظيفي للدولة ‏الجديدة التي  دعمت بريطانيا انشاءها وهي ايران الملفقة لانها تقوم على استعمار ‏قوميات متعددة واستغلال ثرواتها وسكانها لتحقيق التوسع الاستعماري في ارض ‏العرب تحديدا .‏

من ينظر لما يجري خصوصا في العراق وسوريا يلاحظ بسهولة ان ثمة ‏تناقضا صارخا بين خطين يعملان لاثبات الهوية الخط الصهيوغربي  والذي يبذل ‏جهودا جبارة منظمة لاثبات ما ورد في العهد القديم (كتاب اليهود) من قصص ‏وروايات اثبتت الاحداث في فلسطين انها غير صحيحة بعد حفريات طويلة في ‏الاماكن المقدسة في فلسطين ، اما الخط الثاني فهو خط العروبة الذي تتعرض ‏ادلته للتدمير والسرقة والاتلاف المنظم لاجل اثبات صحة فرضيات الخط الاول ‏، ولعل اكبر الشواهد هو ما فعلته أميركا عندما غزت العراق في عام 2003 ‏بتصرفها المخابراتي تجاه الاثار العراقية  ونهبها وتحويل بابل واور الى ‏معسكرات تحفر لمدة خمس سنوات ، وتسخير عصابات اعدتها أميركا لتدمير ‏الاثار وازالة ادلة هويتنا الى الابد .  ‏

ما اصول حكاية الادلة؟

التاريخ هنا هو المنبع الجوهري لادلة الهوية بما ‏يختزنه من معلومات ووثائق مسجلة غالبا على حجر اتخذ احيانا شكل تماثيل ‏بينما في حالات اخرى اتخذ شكل مخطوطات على حجر او غيره . ومن يهتم بادلة ‏التاريخ طرفان : طرف تتعرض ادلته للتدمير المنظم مثل العرب فيصبح النضال ‏من اجل حماية ادلة التاريخ هدفا سوبرستراتيجيا ، اما الطرف الاخر فهو ناقص ‏ادلة الهوية والذي يريد اصطناع ادلة هوية مزورة او نهب ادلة الطرف الاخر ‏صاحب الكنز الهائل من ادلة الهوية وهو الشعب العربي . ‏

الحرب السرية التي تقع الى جانب الحروب العلنية ضد العرب هي حرب ‏تدمير او اصطناع ادلة الهوية وطرفاها هما العرب من جهة والغرب المتصهين  ‏بكل ادواته ومعاونيه مثل (اسرائيل الشرقية) من جهة ثانية . ‏

الحقيقة الاكبر والدرس الاكبر هو ان الانتصار في معركة الهوية اهم من ‏الانتصار في معركة الارض فاذا ذهبت الهوية فلن يكون هناك نضال من اجل ‏تحرير الارض لانها ستكون قد قسمت واستولت عليها اقواما غريبة تخوض ‏الصراع الان ضدنا . فليكن نضالنا الاساس هو نضال حماية الهوية بكافة ‏الوسائل .‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,039,429

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"