تشير الغالبية الساحقة من استطلاعات الرأي التي نشرت مؤخرا في تركيا الى انّ انتخابات الاعادة التي ستجري في الاول من نوفمبر ستشهد زيادة في نسبة الاصوات التي سيحصل عليها كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري أكبر الاحزاب المعارضة في البلاد، في مقابل تراجع في نسبة الأصوات التي سيحصل عليها حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطية الكردي.
لكنّ مثل هذه الخلاصة لا تجيب على السؤال الأساسي والمحوري في هذه الانتخابات وهو: "هل سيحصل حزب العدالة والتنمية على الأغلبية التي تؤهّله تشكيل الحكومةمنفردا أي 276 مقعدا (أي نصف مقاعد البرلمان+1) أم لا؟" . اذ لا يكفي إنخفاض نسبة التصويت لحزب الشعوب الديمقراطية حتى نقول ان حزب العدافلة ضمن تشكيل الحكومة منفردا، بل يتلق الامر بمدى حجم الانحفاض.
عدد قليل من الاستطلاعات اشار الى انّ حزب العدالة والتنمية سيحصد أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا، الجزء الاكبر من باقي الاستطلاعات اشار الى انّه سيفشل في تحقيق ذلك بفارق ضئيل جدا قد لا يتجاوز الأربعة مقاعد مقارنة ب16 مقعد في الانتخابات البرلمانية الاخيرة.
تصحيح للأخطاء السابقة
في الفترة القليلة الماضية، إتّخذ حزب العدالة والتنمية سلسلة من الاجراءات والقرارات لتصحيح الاخطاء التي ارتكبها في الانتخابات البرلمانية الاخيرة على أمل أن يؤدي ذلك في نهايةالمطاف الى كسب الممزيد من الاصوات، ومن اهم هذه الخطوات على سبيل المثال:
أولا: تغيير استراتيجية توزيع المرشحين لاسيما في منطقة شرق وجنوب شرق تركيا
لا تزال تعتمد على المنطقة في علاقاتها الاجتماعية على الطابع الوثيق للترابط العائلي (هناك طابع عشائري لا يزال مسيطرا). وكان حزب العدالة والتنمية قد رشّح في الانتخابات الأخيرة عددا من الشباب عن تلك المنطقة لكنّهم لم يكونوا مرتبطين بشكل قوي بالاماكن التي تمّ ترشيحهم عنها ولا يعرف الناخب عنهم الشيء الكثير ولا عن خبراتهم وبالتالي فقد هذا الناخب الاهتمام بالتصويت لهم بل وفضّل عدد كبير منهم التصويت للحزب الكردي.
وفي محاولة لتصحيح هذا الخطا، أعاد حزب العدالة و التنمية هذه المرّة طرح أسماء مرشحين أكثر صلة وترابطا بالمنطقة وأهلها على أمل أن يعيد ذلك الاصوات التي ذهبت الى احزاب أخرى او تقاعست عن التصويت في الانتخابات الاخيرة.
بموازاة ذلك، تمّ اجراءات بعض الاستثناءات الداخلية ايضا، وتم اعادة الاسماء اللامعة التي تم حرمانه من المشاركة سابقا بسبب القانون الداخلي للحزب، ومن المنتظر ان تشكّل هذه الاسماء فارقا مهما بما لها من خبرة وشعبية لدى الناس.
ثانيا: تخفيف النقاش العام بخصوص النظام الرئاسي
في الإنتخابات البرلمانية الاخيرة، دفع حزب العدالة و التنمية موضوع "التحول الى النظام الرئاسي" الى واجهة النقاش العام بقوّة، وسانده في ذلك رئيس الجمهورية. لقد أثار هذا الامر آنذاك حفيظة المعارضين بقوة فكان بمثابة مغناطيس لكل من يريد أن يفشل مشروع أردوغان ما أدى الى دفع شريحة لا يستهان بها من ناخبي "حزب الشعب الجمهوري" للتصويت لحزب الشعوب الديمقراطية" الكردي من أجل رفع نسبته وافشال وبالتالي منع حزب العدالة والتنمية من الحصول على غالبية الاصوات المطلوبة لتشكيل الحكومة منفردا.
ورغم أنّ النظام الرئاسي لا يزال يشكّل أولويّة لدى حزب العدالة والتنمية، الا انّه تدارك الخطأ السابق وجعل النقاش العام حول الموضوع في حدّه الادنى هذه المرّة، كما بدا واضحا عزوف أردوغان عن القيام بحملات تتعارض مع موقعه كرئيس للجمهورية أو قد يفهم منها انها ترويج لحزب العدالة والتنمية، على أمل ان يؤدي ذلك الى تحييد الشريحة التي تمّ استفزازها سابقا.
ثالثا: محاولة التواصل مع أحزاب أخرى
في الانتخابات السابقة، كان حزب العدالة و التنمية واثقا من حصوله على اغلبية مريحة تخوّله تشكيل الحكومة منفردا، ولذلك كان يعتقد انّه غير مضطر للتواصل مع الاحزاب الاخرى الصغرى في البلاد والتي يمكن ان تشكّل رغم صغرها رافدا مهما لكتلته التصويتية لا سيما في الاوقات الحرجة. وعندما أصيب حزب العدالة والتنمية بصدمة نتيجة الانتخابات الاخيرة، بدا واضحا هذه المرة أنّه يحاول قدر المستطاع فتح خطوط تواصل مع الاحزاب الاخرى.
اذ تواصل الحزب هذه المرة على سبيل المثال مع حزب السعادة (تيار الزعيم الراحل نجم الدين أربكان) على أمل ان يستفيد من قاعدته التي تشكل تقريبا وفق الانتخابات الاخيرة حوالي 3% من اصوات الناخبين، وعلى الرغم من عدم توصّل الحزبين الى إتّفاق، الا انّ حزب العدالة والتنمية استطاع على سبيل المثال ان يضم "طغرل توركش" ابن زعيم مؤسس حزب الحركة القومية -ثاني أكبر حزب معارض في البلاد- الى صفوفه.
على ماذا يراهن حزب العدالة والتنمية
على عكس الانتخابات البرلمانية الاخيرة، يبدو حزب العدالة والتنمية قلقا الى حد ما بخصوص النتيجة التي من الممكن ان يحصل عليها، وبينما كانت الثقة تغمر ممثليه سابقا، من الممكن ان نلاحظ انّهم يتفادون هذه المرّة ذكر أرقام معيّنة او نسب معيّنة، كما انّهم يتكلّمون بشكل أكثر تواضعا، لكنّهم يراهنون في نفس الوقت على جملة من المعطيات والعوامل التي قد تضمن لهم تحقيق الهدف الذي يصبون اليه، ولعل من أبرز هذه العوامل:
أولا: أصوات الأتراك في الخارج
هناك إرتفاع كبير جدا في اصوات الاتراك الموجودين في الخارج والذين صوتوا (خلال الايام الماضية)و من المتوقع ان تصل نسبة التصويت الى ما بين 45 و50%، وهو ما يعني ما بين مليون و300 ألف صوت الى مليون و500 ألف صوت علما انّ نسبة المشاركةف ي الانتخابات البرلمانية السابقة كانت حوالي 36%. ويراهن حزب العدالةو التنمية على ان يحصل على مزيد من الاصوات من هذه الشريحة التي تصوّت في الخارج علما انّه كان حصل على حوالي 50% من أصواتها في الانتخابات الاخيرة.
ثانيا: أصوات المحافظين (الأكراد والأتراك)
في الانتخابات الاخيرة، صوّتت شريحة كبيرة من المحافظين الاكراد الى حزب الشعوب الديمقراطية الكردي وذلك في تصرف استثنائي على غير معهود، لكن من الواضح انّ هذه الشريحة ستعود من جديد للتصويت الى حزب العدالة والتنمية خصوصا بعد ارتفاع حدّة الاستقطاب القومي (الكردي- التركي) من جهة، وبعد تدهور الوضع الامني في منطقة شرق وجنوب شرق تركيا.
ومن المتوقع ايضا أن نشهد نفس السلوك فيما يتعلق بالمحافظين الاتراك المنضوين تحت لواء حزب الحركة القومية، والذين فضلوا التصويت في الانتخابات الاخيرة لهذا الحزب، ولكنّهم وبسبب الاستقطاب القومي من جهة، وتدهور وضع حزب الحركة القوية قد يفضلون التصويت لحزب العدالة والتنمية باعتباره حزبا محافظا من جهة وباعتباره حزبا يخوض المعركة ضد حزب العمال الكردستاني من جهة اخرى.
ثالثا: تراجع الشريحة غير الكردية عن دعم حزب الشعوب الدينقراطية الكردي
في الانتخابات السابقة، حصل حزب الشعوب الديمقراطية الكردي على شريحة لا يستهان بها من أصوات الناخبين التابعين أصلا لحزب الشعب الجمهوري سواء من اصوات العلويين أو اليساريين الأتراك، وقد صوّتت هذه الشريحة آنذاك لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي نكاية بأردوغان ولإفشال مشروع النظام الرئاسي.
وعلى الرغم من انه لا يمكن استبعاد ان يتم تكرار نفس الامر الان، الا انّ هناك عوامل ترجّح انخفاض نسبة هؤلاء وعودتهم للتصويت الى حزب الشعب الجمهوري بسبب الصراع الجاري بين الحكومة وحزب العمّال الكردستاني المصنّف ارهابي في البلاد وبسبب تدهور الوضع العام. وهذا سيؤدي حال حصوله الى تراجع نسبة الاصوات التي ستذهب للحزب الكردي مما سيفيد في المحصلة حزب العدالة والتنمية.
رابعا: أصوات المتقاعسين السابقين
هناك شريحة لا يستهان بها من الناخبين الذين يصوتون عادة لحزب العدالة والتنمية لم يصوتوا لأحد في الانتخابات الماضية ربما لأنّهم لم يروا ضرورا لذلك أو انهم كانوا واثقين من انّ حزب العدالة التنمية سيفوزن بالاغلبية التي تخوله تشكيل الحكومة منفردا وانه لا حاجة لاصواتهم او لانّهم لم يحسموا امرهم.
بغض النظر عن السبب الحقيقي، الا انّ الحزب ركّز خلال الشهرين الماضيين على حشد هؤلاء لأنّ مشاركتهم الى جانب المعكيات سابقة الذكر كفيلة بتغيير المعادلة كلّياً. ومن المرجّح ان حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والامني ستكون الدافع الأكبر لعودة هؤلاء الى التصويت لحزب العدالة والتنمية.
السيناريوهات المطلقة
الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية في انتخابات الاول من نوفمبر وتشكيل الحكومةمنفردا يبقى إحتمالا قائما من دون شك، يحتاج فقط الى كسب حوالي 16 مقعدا برلمانيا اضافيا، وهذه المهمّة ليست مستحيلة في ضوء ما اوردناه في التقرير، لكن لا يمكن في المقابل أيضا تجاهل احتمالات فشله في تحقيق ذلك، الفارق بين الاحتمالين ضئيل جدا في الاطار النظري نظرا لضبابية المشهد الذي لا يمكن له ان ينجلي الا بخروج النتائج.
لا شك انّ نجاح حزب العدالة والتنمية في تشكيل حكومة أغلبية سيكون أفضل السيناريوهات على الاطلاق للبلاد وللنظام السياسي وللوضع الاقتصادي والاجتماعي والامني وللمنطقة أيضا التي تمر في ظروف صعبة للغاية، لكن إذا فشل حزب العدالة والتنمية في تحقيق الأغلبية التي تخوله أن يشكل الحكومة منفردا هذه المرة أيضا فسنكون أمام مشهد معقد للغاية على جميع المستويات. لن يقتصر الأمر على المجال السياسي بل سيطال بالتأكيد الوضع الاقتصادي والوضع الأمني والوضع الاجتماعي في البلاد. ستتعمق حالة عدم اليقين إزاء مستقبل البلاد مما من شأنه أن يلقي بظلاله على الوضع الاقتصادي ويزيد من تخوف المستثمرين وربما هروبهم ويضعف من سعر الليرة ويرفع من حجم التضخم ويقلص من نسبة النمو المتوقعة. هذا اذا اعتبرنا انّ الامور بقيت في الاطار المضبوط، اما اذا انتشرت الفوضى فان النتائج ستكون مدمّرة على كل المستويات، ناهيك عن انعكاسات مثل هذا الاحتمال على الوضع الاقليمي المزري أصلا.
على العموم، اذا لم يستطع حزب العدالة والتنمية تشكيل الحكومة القادمة منفردا، سنكون أمام ثلاثة سيناريوهات على الأرجح. نظريا سيكون هناك إما مفاوضات من أجل تشكيل حكومة ائتلافية، أو حكومة أقلية، أو إعادة انتخابات. لكن ما يختلف هذه المرة عمّا جرى عقب انتخابات يونيو الماضي السابقة أن فرص تشكيل حكومة أقلية أو انتخابات مبكرة أخرى ستصبح أقل بكثير من السابق.
أولا: سيناريو اعادة الانتخابات مرة أخرى
نظريا هذا ممكن. عمليا، فان الحديث عن إعادة انتخابات مرة أخرى سيفقد الناخبين الثقة في فعالية الانتخابات وفي مدى إسهام صوت الناخب في الدفع باتجاه النتيجة التي يريدها مما من شأنه أن يقوض من الآلية التي تهدف بالأصل إلى تقوية شرعية النظام السياسي. حتى اذا اردنا تجاهل ذلك، فان اجراء أكثر من أربع انتخابات خلال 12 شهرا تقريبا هو امر مرهق للناخب، كما انّ عدم الحسم في النتائج بشكل متكرر بفقده الدافع للتصويت،ويتحوّل موضوع الانتخابات حينها الى مأزق بدلا من أن يكون مدخلا الى الحل. ولذلك فان هذا السيناريو هو الاقل احتمالا ان لم نقل شبه مستبعد.
ثانيا: سيناريو حكومة أقلّية
في التجربة السابقة الأخيرة، كان هناك احتمال قيام حكومة أقلّية بالفعل، وكان حزب العدالة والتنمية ينظر الى حزب الحركة القومية لتحقيق هذا الهدف دون استبعاد إحتمال قيام حزب الشعب الجمهوري ايضا بنفس المهمة، أي منح الدعم لحكومة اقلية يشكلها حزب العدالة والتنمية بشكل حصري وتحصل على الثقة في البرلمان بدعم من أحد هذين الحزبين دون ان يكون مشتركا فيها . لكن تمسك كل من حزب الحركة القومية بشروط غير موضوعية نسف إمكانية تحقيق هذا الامر.
حتى الآن لا يوجد هناك اي مؤشرات الى تراجع حزب الحركة القومية عن المطالب التي كان قد ذكرها سابقا،واذا بقي متمسكا بنفي هذه المطالب بعد الانتخابات التي ستجري في الاول من نوفمبر فعندها سيكون من الصعب جدا تحقق مثل هذا السيناريو.
ثالثا: سيناريو حكومة إئتلافية
حصلت مفاوضات بعد الانتخابات التي جرت في يونيو الماضي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري لدرس امكانية تشكيل حكومة ائتلافية، لكن حزب الشعبا لجمهوري وضع شروطا بسقف مرتفعن فالمطالب التي يطالب بها كانت أكبر من الحجم الذي حققه في الانتخابات، فالنسبة التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري لا تخول حقيقة فرض شروط بسقف مرتفع إلى هذه الدرجة. لقد بدا ذلك عملية مستحيلة بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية الذي وجد نفسه غير مضطر لتقديم هذه التنازلات القاسية لتشكيل حكومة ائتلافية خاصة أن لديه فرصة أخرى وهي إعادة الانتخابات.
أما وأن إعادة الانتخابات ستتم في الأول من نوفمبر، فهذا يعني انّ حزب العدالة والتنمية سيستنفذ هذه الورقة. الجيد انّ حزب الشعب الجمهوري أرسل مؤشرات مؤخرا الى انّه مستعد لإبداء ليونة بشان بعض مطالبه السابقة في حال كان هناك سيناريو لتشكيل حكومة ائتلافية هذه المرة ايضا، لكن من غير المعروف بالضبط الى اي مدى سيكون قادرا على ابداء هذه الليونة خاصة انّ ارتفاع نسبة التصويت له قد تجعله يتراجع عن ذلك رغم انّ دافعه الاساسي سيبقى "حب المشاركة في السلطة" بعد غياب طويل عنها.
هذا السيناريو ليس مثاليا بالطبع، لكنّه الافضل اذا لم يستطع حزب العدالة والتنمية تشكيل الحكومة منفردا. سيعتمد الأمر هذه المرة في أي مفاوضات ائتلافية على المراهنة على عقلانية الطرح ومنطقيته لدى الأطراف التي ستتفاوض على الائتلاف. أما إذا لم يحصل ذلك، وعمدت باقي الأطراف إلى رفع سقف مطالبها فسيكون حزب العدالة والتنمية أمام اختبار جدي بأن تذهب البلاد إلى الفوضى أو أن يضطر إلى تقديم تنازلات قاسية لتشكيل الحكومة الائتلافية المنشودة.
رابعا: سيناريوهات اخرى
من الممكن اذا كانت بعض المقاعد البرلمانية فقط تحول دون قدرة حزب العدالة و التنمية على تحقيق حكومة أغلبية ان نشهد استقالات من قبل بعض البرلمانيين التابعين لأحزاب المعارضة وانضمامهم فيما بعد الى حزب العدالة و التنمية. هذا سيناريو ممكن ايضا وسيكون دراماتيكيا حال حصوله.
وهناك سيناريو اعلان حالة الطوارئ ايضا، الامرا لذي يخول رئيس الجمهورية بموجب الدستور اصدار قرارات يكون لها قوة القانون بعد ترأسه مجلس الوزراء، ولكن هذا السيناريو نظري جدا ومستبعد عمليا لانه لا يتناسب مع الواقع التركي حاليا. كل هذه الاحتمالات تبقى في إطار التكهنات طبعا. لكن الثابت الوحيد هو أن الصندوق سيرسم مرة أخرى معالم المرحلة المقبلة في تركيا.