عراب الإحتلال ‏بين أنصاره ومعارضيه

علي الكاش

ليس من المستغرب أن تختلف نظرة العراقيين إلى النائب الراحل أحمد الجلبي، فهناك من جعله ‏يتربع على قمه هرم الوطنية، وهناك من أنزله إلى القاع الأدنى في مستنقع العمالة. وهناك من ‏تشفي في موته نظير الخراب والموت الذي لحق بالعراق جراء الغزو، وهناك من عارض التشفي ‏منطلقا أما من موقف عقائدي لا يجيز التشفي في الموت، بغض النظر عن شخصية الميت، أو من ‏خلال إعتقاده بأن الجلبي خدم العراق وهو من رموز العملية السياسية الحالية، ولا يستحق الإساءة.

 

‏الغريب في الأمر أن بعض الذين رفضوا التشفي من موت الجلبي كانوا انفسهم قد تشفوا من موت ‏الرئس صدام حسين، بل أن بعضهم كتبوا مقالات نهوا فيها عن التشفي وفي نفس ‏المقال تشم رائحة التشفي في موت الرئيس صدام حسين، وهذا إنفصام في المواقف ولا يعكس ‏شخصية متزنة للكاتب.‏

نتفق تماما بأن التشفي بالموت (كظاهرة طبيعية) وليس (كظاهرة شخصية) غير مقبول لأن البشر ‏جميعا معرضون للموت، لكن ميزان الآخرة بين الحسنات والسيئات لا يلغِ ميزان الدنيا من ‏الإيجابيات والسلبيات، بل هو يعتمد أساسا عليها.

ومثلما طالب أهل المتوفي تشريحه لمعرفة سبب ‏وفاته، فمن حق الجميع ان يشرحوا شخصيته لمعرفة سبب حبه من قبل البعض ودفاعهم عنه، ‏وكراهيته من قبل البعض الآخر والتشفي في وفاته. ‏

من المؤكد أن الذي قدم تضحيات كبيرة من الأهل والأحبة بسبب الغزو الأميركي الذي كان عرابه ‏أحمد الجلبي لا ينظر نفس نظرة من جاء على الدبابات الأميركية وترك أهله يتنعمون في خارج ‏العراق ويعيشون برخاء ودماؤهم محفوظة. الذي فقد ممتلكاته من دار ومحال ومزارع ومعامل ‏وهاجر بسبب الفوضى الأمنية، ليس كمن جاء صفر اليدين وسلب ديارهم وسكنها وتصرف ‏بممتلكاتهم بلا وجه حق. الذي فقد وظيفته بسببب الغزو وقرارات لجنة الإجتثات التي تزعمها ‏الجلبي لا ينظر نفس نظرة من جاء بعد الغزو وتسلم وظيفته أو وظيفة كبيرة تعد بالنسبة له ضرب ‏من الخيال وبراتب كان يحلم به. الذي عمل في دولة العراق عشرات السنين وأفنى زهرة شبابه في ‏خدمتها، وولى هاربا بسبب فوضى الميليشبات بدون حقوق تقاعدية، لا ينظر نفس نظرة من جاء ‏بعد الغزو ليعتبروا له سنوات التكسع في حارات أوربا وأميركا واحياء سوريا وإيران خدمة ‏جهادية ليخدم بضعة سنوات ويحال على التقاعد ويقبض الملايين. الذي دافع عن العراق في ‏الحروب الثلاثة وسقى تراب الوطن من دمه الزكي، لا ينظر نفس نظرة من هرب من الخدمة ‏العسكرية وإلتحق بصفوف الأعداء وحارب الجيش العراقي. ‏

العالم الذي سخر علمه للعراق والرقي به ولاحقته الميليشيات الإيرانية والموساد الصهيوني وتمكن ‏من النجاة بجلده، لا ينظر نفس نظرة الذي زور شهادته وتبوأ منصبا رفيعا في الدولة العراقية. ‏الذي يسكن المنطقة الخضراء ويتنعم بمطاعمها الأوربية الطراز والعيش الرغيد والخدمات الطبية ‏الراقية والسلع الأجنبية والأمان، لا ينظر نفس نظرة من دخلت مياة الأمطار بيته متعانقة مع مياة ‏المجاري وحلت ضيفا ثقيلا عليه في غرفة المعيشة. من يرى أولاده الصغار مرضى وجياع  وبلا ‏دواء ولا مدارس ولا أية خدمات، ليس كمثل من أمن صغاره في أوربا ووفر لهم كل إحتياجاتهم ‏من مال العراقيين.‏

الغنى نقيض الفقر، الصحة نقيض المرض، الشبع نقيض الجوع، الأخلاص نقيض الفساد، ‏والوطنية نقيض العمالة، لذا من يقف بجانب الأوائل من الأوصاف يتعارض مع من يقف مع ‏الثواني من الأوصاف وهذا أمر طبيعي.  لذا من هذا الموقف أختلف العراقيون في نظرتهم إلى ‏الجلبي. وسوف نتوقف أمام بعض المحطات في مسيرة الجلبي ونترك الحكم للقاريء الفاضل، فهو ‏الحاكم على هذه الشخصية المثيرة للجدل، وسنحاول جهد أمكاننا أن نتخذ موقف الحياد، ولكن هذا ‏لا يعني إننا سنتجنى على الجلبي لأن الإيجابات قليلة أو معدومة والسلبيات عديدة، نحن لم نصنعها ‏بل نستعرضها فقط. ومرجع الإيجابيات والسلبيات هو الشخص نفسه وليس نحن، فهو يتحمل ‏مسؤوليتها.‏

‏1. ينحدر أحمد الجلبي من عائلة غنية ومعروفة في العراق لعبت دورا مما في تأريخه الحديث، ‏سبق ان تولى والده مناصبا مهمة في العهد الملكي، وغادر أحمد الجلبي العراق عام 1958 وكان ‏عمره ثلاثة عشر عاما، وانتهت علاقته بالوطن تماما، فقد درس في الولايات المتحدة الأميركية ‏وبريطانيا في حقول الرياضيات والإقتصاد، ولم يكن له غير نشاطات مصرفية وليس سياسية. لذا ‏يمكن الحكم بأنه بعيد عن العراق وقضاياه طيلة فترة شبابه وما بعدها لغاية التسعينيات من القرن ‏الماضي حيث ظهر صيته، ولم يكن له أي دور وطني خلال تلك الفترة، لذا لا يمكن وصفه برمز ‏وطني حتى بالنسبة لأنصاره، الرجل أميركي الجنسية وزوجته لبنانية الجنسية وابنائه أجانب ولم ‏يعش في العراق لا هو ولا عائلته. أما من يعتبره رمزا وطنيا لكن صحوته الوطنية جاءت متأخرة ‏فهذا شأن آخر.‏

‏2. صار الجلبي تحت الأضواء بعد حادثة مصرف البتراء في عمان حيت تولى رئاسة مجلس ‏إدارته للفترة 1982 ـ 1989 مع أفراد من أسرته وأقاربه، وأدين الجلبي من قبل محكمة امن ‏الدولة في الأردن بتأريخ 9/4/1992 بجرائم اختلاس أموال بنك البتراء والإحتيال وسوء الإئتمان ‏ابان توليه رئاسة مجلس الإدارة، وصدر بحقه حكما غيابيا ـ بسبب هروبه من عمان ـ بالاشغال ‏الشاقة لمدة 22 سنة وغرامات مالية حوالي 30 مليون‎ ‎دولار. ومع تولي الجلبي رئاسة مجلس ‏الحكم في العراق وسيطرته على البنوك العراقية وتفريغها من العملات الأجنبية، فأنه رفض دفع ‏الغرامة او المثول أمام المحاكم الأردنية لتبرئة نفسه. بل على العكس أقام دعوى مقآبلة في ‏المحاكم الأميركية مطالبا بتعويضات من بنك البتراء ـ الذي أعلن أفلاسه ـ ولكن المحاكم ‏الأميركية رفضت دعواه. بالطبع ان وفاة الجلبي تُسقط حكم الأشغال الشاقة عليه، ولكنها لا تُسقط ‏حق المستحقات المالية التي بذمته والتي يمكت استيفائها من تركته او الورثة.‏

‏3. ظهر الجلبي على المشهد السياسي في التسعينيات من القرن الماضي، كأحد المعارضين لنظام ‏البعث في العراق، وكان من أبرز المعارضين الذي إعتمدت عليها الإدارة الأميركية، ونال حزبه ‏المؤتمر الوطني العراقي نصيب الأسد عندما أقر الرئيس الأميركي كلينتون خطة تحرير العراق ‏بإنفاق (90) مليون دولار على المعارضة العراقية. وإستمر في التعاون مع المخابرات المركزية ‏وتسلم ملايين الدولارات المسجلة بأسمه شخصيا وليس حزبه.‏

‏4. كان الجلبي بإعتراف الأميركان عميلا للمخابرات المركزية ويحمل الرقم (708) وقد نشر ‏‏(موقع ويكيليكس) وثيقة في مطلع‎ ‎العام 2015 تشير إلى نية المخابرات الأميركية الإستغناء عن ‏خدمات العميل (رقم 708) الجلبي، بإعتباره أصبح خطرا على مصالحها، بعد أن تبين انه يعمل ‏جاسوسا مزدوجا للأميركان والإيرانيين معا. وفعلا قامت القوات الأميركية بالإغارة على بيته ‏وصادرت ما فيه من اجهزة حاسوب ووثائق أثبتت إرتباطه بالنظام الإيراني، فإستغنت عن خدماته ‏تماما. كما أصدرت قوات الإحتلال بحقه مذكرة اعتقال مع ابن اخيه سالم الجلبي عندما كانا خارج ‏العراق.‏

‏5. يعتبر الجلبي عراب الإحتلال الأميركي للعراق وهذا لا يحتاج إلى برهان فالوثائق ‏والتصريحات الأميركية تؤكد هذا الجانب. فقد كان الجلبي من أبرز مروجي الأكاذيب الأميركية ‏بشأن إمتلاك العراق أسلحة التدميرالشامل، وكان نجم اللقاءات الصحفية والتلفازية الذي تستعين به ‏الإدارة الأميركية لزرع الوهم في الرأي العام الداخلي والدولي حول خطورة الرئيس العراقي صدام ‏حسين على الأمن والسلم الدوليين، وقد تبين فيما بعد مصداقية النظام الوطني السابق وإكذوبة ‏أسلحة الدمار الشامل، وأكذوبة علاقة للعراق بالإرهاب الدولي، وبقية الأكاذيب المعروفة للجميع. ‏وقد سئل الجلبي في لقاء تلفزيوني بشأن إدعائه امتلاك العراق أسلحة التدمير الشامل التي مهدت ‏لأحتلاله فأجاب " ما أهمية ذلك سواء كانت موجودة أو لا! لقد غيرنا النظام اليس كذلك"!‏

‏5.  خلال عدة مقآبلات إدعى الجلبي " شخصيا، لن أسعى لكي اصبح رئيسا للعراق، ولا‎ ‎ابحث ‏عن المناصب، ومهمتي ستنتهي بتحرير العراق من حكم صدام حسين". ولكنه بعد ذلك شعل ‏مناصبا رفيعة، ولم تنتهِ مهمته كما ذكر، فقد تسلم رئاسة مجلس الحكم عام 2003 ثم شغل منصب ‏نائب رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري عام 2005، وعام 2007 كان مستشار المالكي للجنة ‏الخدمات، وصار نائبا في مجلس النواب لحد وفاته. حيث شغل منصب رئيس اللجنة المالية ‏النيابية.‏

‏6. عين بول بريمر الجلبي عام 2004 رئيسا للهيئة الوطنية لإجتثاث البعث، وكانت هذه الهئية قد ‏أقصت الكثير من الكفاءات العراقية بسبب الإنتماء إلى حزب البعث، فأحدثت شرخا كبيرا في ‏المجتمع العراقي، وكان عملها إنتقائيا، حيث يوجد العديد من الكوادر البعثية التي تشغل مناصبا ‏مهما في الحكومة والبرلمان والجيش مثل علي الشلاه ومظفر العاني والقادة العسكريين. لكن مع ‏هذا لنستمع رأي بريمر بأحمد الجلبي، كما نقلته وداد فرنسيس سكرتيرة بريمر الخاصة" إنه ‏مهندس مشاريع التفرقة وشق الصف". وتقول كلما واجهت بريمر مشكلة‎ ‎شيعية فأنه يتصل ‏بالجلبي لتوبيخه قبل ان يتصل بأي عضو في مجلس الحكم وكانت‎ ‎الكثير من تلك المشاكل يخلقها ‏الجلبي ويخمدها لغرض عقد صفقات سياسية مع‎ ‎الاميركان. لم يكن بريمر يحبه فقد كان يتلذذ ‏برفض طلب مقآبلته بين الحين‎ ‎والحين، وكان كثيرا ما يوبخه علنا ويسميه (المتملق المفضوح).‏

‏7. كان الجلبي مدركا تماما إكذوبة أسلحة التدمير الشامل، وقد حث الولايات المتحدة سرا على ‏الغزو من أجل السيطرة على النفط العراقي،  فقد ذكر السياسي والمحلل الستراتيجي (دان ‏مورغان) في مقال نشره في صحيفة واشنطن بوس في19/9/2002 " ان مصادر المعارضة ‏العراقية أكدت بأن إسقاط نظام صدام من شأنه فتح أبواب كنز هائل لشركات النفط الأميركية" ‏وهذا ما أكده الجلبي يقوله" سيكون للشركات الأميركية نصيب كبير من النفط العراقي" (عراق ‏المستقبل/327).‏

‏8. حاول الجلبي بعد أن فشله في إنتخابات علم 2005 أن يدخل تحت خيمة مرجعية النجف، ‏فأسس (البيت الشيعي) الذي إنهارت أركانه قبل أن يكمل بنائه. والبيت الشيعي كما هو واضح ‏بيت طائفي لا يمكن أن يُعمر، الغرض منه إستمالة الشيعة، ولو كانت تسميته (البيت العراقي) ‏لكان الكلام إختلف.‏

‏9. كان الجلبي قد إستولى على أرشيف جهاز المخابرات العراقية، وتشير المعلومات بأن معظم ‏الأرشيف ـ قسم إيران والدول المجاورة ـ أرسل إلى إيران. أما الملفات التي تشير الى تجنيد ‏المخابرات العراقية لعدد ممن يسمى برموز المعارضة، فقد إحتفط بها وأرسلها إلى لندن لإبتزاز ‏الزعماء السياسيين الحاليين، لذا فقد كانوا يخشونه جدا مخافة فضحهم، ويلاحظ ان الجلبي هو ‏المسؤول الوحيد الذي لم يوجه له إنتقاد أو تهمة فساد من بين بقية المسؤلين، وربما تكشف إبنته ‏تمار قريبا ما بعهدته من وثائق خطيرة قبل وبعد الإحتلال، سيما أن تيقنت أن أباها تعرض إلى ‏محاول إغتيال. من جهة أخرى كان في سرداب جهاز المخابرات الأرشيف اليهودي الذي يضم ‏مخطوطات ووثائق نادرة عن اليهود منها أقدم نسخة للتوراة، إنتقل الأرشيف بأكمله الى الكيان ‏الصهيوني، وأتهم الجلبي بتهريبه، لكنه لم يفند إتهامه.‏

‏10. كان ولاء الجلبي لإيران كبيرا، لهذا السبب تخلت الإدارة الأميركية عنه، وبعد وفاته لم يعلق ‏أي مسؤول أميركي عنه، في حين توالت التعازي الإيرانية بطريقة ملفتة للنظر، قدم وزير ‏الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التعازى وذكر أن الجلبي" كان سياسيا فاعلا وكان العراق ‏احوج ما يكون لخبرته وحنكته‎ ‎السياسية في تسوية الخلافات وتقريب وجهات نظر الاطراف ‏السياسية. كما قدم نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، التعازي وقال" إن الجلبي ‏وبوعيه لمخططات الاعداء المقيتة، ركّز نضاله السياسي في مسيرة استقلال العراق ووحدته ‏الوطنية" وكذلك بقية المسؤولين الإيرانيين.‏

‏11. يرى بعض العراقيين من أنصار العملية السياسية بأن الجلبي كان من أبرز المعارضين الذين ‏أطاحوا بالنظام السابق وهو رمز وطني كبير، وله دور مهم في صياغة العراق الجديد ودعم ‏التوجه الديمقراطي. ‏

السؤال الآن: هل عراق ما بعد الغزو أفضل من عراق ما قبل الغزو؟

‏ قبل الإجابة لابد من أن يأخذ القاريء الفاضل الأسس التالية كمعايير أساسية عند التقيم: الوضع ‏الأمني، السيادة وعدم التدخل في الشأن الداخلي العراقي،والعلاقات الخارجية  وهيبة الدولة ‏العراقية في الخارج، الوضع الإقتصادي، الإستقرار السياسي، الجانب الثقافي والإجتماعي ‏والعلاقات العامة، الوضع التربوي، مستوى الفقر والبطالة، مستوى الخدمات الطبية والبلدية ‏ومفردات البطاقة التموينية، حالات الفساد الحكومي كالرشاوي والتزوير والسرقات والجرائم. ‏مكانة العراق في تقارير المنظمات الدولية بكافة القطاعات. الجانب العسكري قوة وتنظيما وإدارة ‏وتسليحا، مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان. يمكن تأشير كل فقره بعلامة، والتعرف على ‏النتيجة النهائية.‏

صحيح أن أحمد الجلبي ليس هو المسؤول عن كل هذه الفقرات، ولكنه كان من أبرز المعارضين ‏العراقيين، وهو عراب الإحتلال لذا فهو يتحمل جزء غير يسير من المسؤولية. على ضوء النتائج ‏هل يمكن إعتبار الجلبي "ملاك رحيم"، كما يدعي أنصاره،  أو "الشيطان بعينه" كما أشار ذكر ‏باتريك  كوبيرن المحلل السياسي في صحيفة الإندبندنت بأن أحد الدبلوماسيين الأوربيين أطلق ‏على الجلبي هذا الوصف؟

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,036,280

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"