رؤية مختلفة للعمل الإرهابي في #باريس

علي الكاش

الحرب لا تخلو من حماقات، وكما قيل في الحرب لا توجد ممنوعات، كل شيء مسموح، عندما يدخل ‏طرف ما في حرب، فإنه سيبرر لنفسه التنصل من القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية، ‏والتحرر من صكوك حقوق الإنسان، وانتهاك الحريات الأساسية، والتنكيل بالمسيرة الديمقراطية، بل ‏والتنصل من الدستور الذي كتبه.

 

فرنسا التي بشرت العالم بمبادئ ثورتها الكبيرة، ورسمت الخطوط ‏العريضة للحريات الإنسانية وتعزيز حقوق الإنسان، وأعتبرته نهج ثابت في سياستها الداخلية والخارجية، ‏هي نفس فرنسا التي قتلت مليون جزائري بعد الثورة الفرنسية، وهي نفس فرنسا التي تقصف المدنيين ‏اليوم في مالي وسوريا والعراق وافغانستان. لقد تجاهلت فرنسا جرائمها في هذه الدول، في الوقت الذي لا ‏يزال بعض مثقفيها يستشهدون بمقاطع من كتاب جان بول سارتر (عارنا في الجزائر)، ولكن فرنسا اليوم ‏أبت إلا أن تجدد عارها في الدول التي تحاربها اليوم بدون مسوغ قانوني.‏

فرنسا ذات الثورة الثقافية والنهج التحرري، لم تتخذ مطلقا موقفا معارضا للولايات المتحدة على الرغم من ‏نهجها العدواني وخرقها لميثاق الأمم المتحدة، علاوة على موقفها التضامني مع الولايات المتحدة في غزو ‏العراق مرتين رغم معارضة الأمم المتحدة، فقد اعلن الأمين العام للامم المتحدة كوفي عنان بأنه دون ‏الحصول على قرار من مجلس الأمن سيكون العمل العسكري ضد العراق غير شرعي". وقال روبرت ‏جاكسون عضو المحكمة العليا للولايات المتحدة" ان حرب الرئيس بوش تنتهك القانون الدولي وتمثل ‏جريمة حرب"، مع هذا فقد شاركت الولايات المتحدة في الحرب ضد العراق رغم العلاقات الوطيدة التي ‏كانت تربطها بالرئيس السابق صدام حسين. وهذا أبرز دليل على إنصياعها مع بقية الدول الأوربية كالتابع ‏الذليل وراء السيد الأمريكي، مضحية بكل علاقاتها مع بقية دول العالم من أجل عيون العم سام، يبدو إن ‏إرضاء السيد الأمريكي هو الهدف الرئيس للسياسة الخارجية الفرنسية. ‏

وصف نعوم تشومسكي السياسة الامريكية بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 بقوله" العدو الأضعف لا ‏بد أن يسحق سحقا، لا ان يهزم فقط! اذا اردنا تلقين العالم درسا في النظام العالم الجديد، فنحن السادة وأنتم ‏ماسحو احذيتنا". (صحيفة ذي غارديان – لندن 25 مارس 1991). والحقيقة ان الدول الأوربية صارت ‏أيضا ماسحة أحذيتكم.‏

فرنسا تدرك جيدا بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي رفضت قرار مجلس الأمن الذي ‏دعا الى احترام القانون الدولي، واستخدمت الفيتو لنقضه. وتدرك أن الولايات المتحدة رفضت التوقيع على ‏اتفاقية اوتاوا التي تحظر استعمال وتخزين وانتاج ونقل الالغام ضد الافراد. والولايات المتحدة إعترفت بأن ‏الأسباب التي تحججت بها لغزو العراق  كأسلحة التدمير الشامل، وعلاقة العراق بتنظيم القاعدة كانت ‏كاذبة، وإعترف رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بالخطأ  نفسه وأن برره بطريقة سخيفة كخطأ ‏في المعلومات الإستخبارية، مع هذا لم يصدر أي أسف من فرنسا عن مشاركتها الولايات المتحدة في ‏حربها الكاذبة على العراق بعد أن كُشفت الفضيحة! ‏

لماذا لأن العنجهية الفرنسية لا تحترم غير السيد الأمريكي اما بقية الدول والشعوب فإنها لا تعني لها شيئا! ‏الدولة التي تتعامل بعنجيهية وغطرسة مع الشعوب الأضعف منها، وتصبح كالعبد أمام الأقوى لا بد ان ‏تصطدم يوما بصخرة كؤود تفيقها وتزيل الضباب عن عينها الرمدة، وهذا ما حصل. ‏

سنناقش الهجوم الإرهابي الأخير الذي تعرضت له فرنسا من وجهة نظر محايدة، وهذا لا يعني إننا سندافع ‏عن تنظيم الدولة الإسلامية ـ معاذ الله ـ  ولا أي تنظيم إرهابي آخر، ولا في نفس الوقت يعني إننا لا ‏نتضامن مع ضحايا الإرهاب في أي مكان، فنحن أصحاب الجرح الأعمق، والمتضرر الأكبر من الإرهاب ‏وليس فرنسا وبقية الدول، ما دفعته فرنسا من دماء على أرضها، الذي صفته بأنه أكبر مشهد دموي عاشته ‏بعد الحرب العالمية الثانية، نعيشه في العراق وسوريا وفلسطين يوميا. لو كنا نقدم كل سنة (129) ضحية ‏من ضحايا الإرهاب في بلداننا شهريا أو سنويا لكنا أفضل بكثير من فرنسا.‏

‏1. جعلت فرنسا من نفسها رقيبا على دول العالم الثالث في رسم سياساتها الداخلية دون ان تخولها شعوب ‏المنطقة تلك الصلاحية، ولا نظن إن فرنسا تقبل من أية دولة أن تتدخل في شؤونها الداخلية تحت أي ‏مبرر. ان من مباديء الثورة الفرنسية والدستور الفرنسي يؤكد على إحترام سيادة الدول الأخرى وعدم ‏التدخل في شؤونها الداخلية، ولكن السيد الأمريكي قادر على أن يجعلها تنتهك دستورها بكل نعومة ‏ورضا. تساءل الفيلسوف الفرنسي (ميشال اونفري) بدهشة" لماذا نفرض القانون على القذافي وفي ‏جمهورية مالي، الناس لهم الحق في تسيير سياسة بلدانهم)؟. ‏

‏2. تنتهج فرنسا سياسة التمايز في التعامل مع الدول، فهي لا تحشر أنفها الفرنسي الطويل والمميز في ‏شؤون الدول القوية كالصين والكيان الصهيوني وروسيا وإيران ودول البلقان على الرغم من الخروقات ‏الهائلة في مجال حقوق الإنسان، لكنها تحشر أنفها في شؤون الدول الضعيفة كالعراق وليبيا وسوريا ‏ومالي.‏

‏3. تعلم فرنسا علم اليقين ان الحرب التي تقودها الولايات المتحدة موجهة ضد الإسلام بالدرجة الأولى، ‏وهناك نسبة كبيرة من المسلمين في فرنسا، يقدر عدد المسلمين حوالي (5) مليون مسلم، ويشكلون حوالي ‏نسبة 6% من السكان، وهم في زيادة مستمرة وأكثرهم من دول المغرب العربي،  ضحايا الإستعمار ‏الفرنسي القديم، وهذا يعني أن فرنسا دخلت في حرب ضد المسلمين الفرنسيين، أي ضد شعبها دون مبرر، ‏وإنما إنقيادا لسيدها الأمريكي.‏

‏4. يبدو أن هواجس الإستعمار القديم لا تزال ماثلة في مخيلة القيادة الفرنسية، وهذا ما يمكن أن نستشفه ‏عبر سياستها الإستعمارية الجديدة، وقد عبر الفيلسوف الفرنسي(ميشال اونفري) عن هذه الحقيقة بقوله ‏‏"علينا أن نتخلى عن فرض سياستنا الإستعمارية على بلدان أخرى بحجة أن حقوق الإنسان هي التي ‏تحركنا! ليست حقوق الإنسان هي التي تحرك الرئيس هولاند". هذا إعتراف واضح يفسر أسباب تحرك ‏الرئيس الفرنسي في المنطقة.‏

‏5. أعلنت فرنسا الحرب على تنظيم القاعدة، ومن بعده ربيبه تنظيم الدولة الإسلامية من طرف واحد، ‏وشاركت الولايات المتحدة في قصف مواقع التنظيم في سوريا والعراق وكبدته خسائرا كبيرا في الأرواح ‏والمعدات، مع أن التنظيم لم يهددها قبل أن تعلن الحرب عليه وتشارك مشاركة فعالة في قتاله. ان إعلان ‏الحرب من قبل فرنسا يسمح للطرف الأخر أن يحاربها بالوسائل المتاحة له، ولأن التنظيم يفتقر الى القوة ‏البحرية والجوية، وإستحالة شن حرب برية على فرنسا، فأنه اتبع وسيلة التفجير، وهذا الأمر يفترض أن ‏تحسب له فرنسا ألف حساب، بل إنه لا يفوت حتى المغفل والجاهل. لا نعرف ما الذي كانت تتوقعه من ‏ردة فعل التنظيم تجاهها حربها عليه؟ إن الذي يدخل حرب بإرادته عليه أن يتوقع الأسوأ بل والمحال ‏أيضا، ويبدو أن هذا ما جهلته أو غفلت عنه الحكومة الفرنسية.‏

‏6. من المعروف أن فرنسا تدعي إنها تحارب الإرهاب، مع إن الإرهاب لم يطالها قبل العمل الإرهابي ‏الأخير، وهي تحارب الإرهاب على أرض الغير، وغالبا ما يشكل الأبرياء من المدنيين النسبة العظمى من ‏ضحايا حربها غير المبررة. يتساءل(ميشال اونفري): لماذا لدى فرنسا اليوم مشاكل مع الإرهاب؟ السبب ‏هو إننا نخوض حروبا في بلدانهم، ونجعل حياتهم مستحيلة، نقوم بمجازر هناك ونقتل العشرات والمئات، ‏ونريدهم مع هذا ان يكونوا طيبين معنا، ان لم يكونوا هكذا فلهم كل الحق في ذلك".‏

‏7. في عام 2014 أخبرني أحد الفرنسيين بأنه وزير السياحة الفرنسي علق على خبر ان عدد السواح زاد ‏ذلك العام عن (80) مليونا بقوله إنها نسبة قليلة، علينا زيادتها. وفعلا كان التوقعات أن يصل عدد السواح ‏للأعوام (2006 ـ 2010 ) حوالي (85) مليون سائح. بلا شك أن فرنسا دولة سياحية من الدرجة الأولى، ‏وهي تتفوق على الولايات المتحدة (67 مليون سائح) سنويا، والصين (58) مليون سائح. وفي فرنسا (37) ‏موقعا سياحيا عالميا مدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي. وتشكل السياحة موردا مهما في الدخل ‏القومي الفرنسي، لذا كان من الغباء جدا أن لا تحسب فرنسا بأن حربها ضد التنظيم سيكلفها ثمنا باهضا، ‏وتتعرض لضربة موجعة تجعلها تعض أصابعها وتورمها، فلا أحد يظن ان تنظيم الدولة سيتوقف عن ‏توجيه ضربات إرهابية جديدة لفرنسا بل ان رئيس الوزراء الفرنسي (متنويل فالس) نفسه حذر الفرنسيين ‏من إعتداءات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية محتملة. بحربها هذه ستفقد فرنسا أهم ميزة من ميزاتها وهي ‏الدولة الأولى في السياحة، حرب لا ناقة لها فيها ولاجمل. لو وزنا حساب الربح والخسارة ماديا ومعنويا ‏فأن الكفة ليست في صالح فرنسا.‏

‏8. كان الرئيس الأمريكي السابق واللاحق قد وضعا قشر الموز تحت أقدام الرئيس الفرنسي فزحلقاه في ‏حرب هي من مسؤولية الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وليست أوربا وبقية الدول المتورطة ممن لم ‏يمسها الإرهاب. تنظيم القاعدة وربيبه تنظيم الدولة الإسلامية من صنيعة الولايات المتحدة، وعملية تمددها ‏سببها الولايات المتحدة، وهذه حقيقة لا يجهلها أحد. لكن الرئيس الأمريكي وزع جبهات الإرهاب على ‏أعوانه الأوربيين والعرب الموالين، وجلس رجل على رجل يتفرج على مسرح الأحداث. الإرهاب بعد ‏التاسع من ايلول قد غادر الولايات المتحدة، وأمنت ساحتها منه، بعد أن وزعت المسؤلية على حلفائها، إنه ‏بلا شك هو ذكاء امريكي مصدره غباء أوربي وعربي.‏

‏9. يبدو ان الرئيس الفرنسي يؤمن يالمثل العربي " داوني بالتي كانت هي الداء"، فهو بدلا من  يتدراك  ‏الزلة الثانية، ويستعيد صوابه، ويعيد لفرنسها مكانتها الثقافية والسياحة، مهد لزلات قادمة على الصعيد ‏الداخلي من خلال فرض حالة الطواريء لمدة ثلاثة أشهر، والسماح بإستخدام السلاح خلال المداهمات، ‏وأيقاف التعامل بإتفاقية شنغن واغلاق العديد من المساجد الاسلامية، وتقييد بعض الحريات، ومراقبة ‏المسلمين، وعلى الصعيد الخارجي تشديد الغارات على تنظيم الدولة الإسلامية.‏

السؤال: هل ستنجح هذه السياسة؟ ‏

التجارب تقول كلا!

الرئيس الامريكي نفسه يعترف بأن الحرب على داعش تحتاج الى سنين طويلة. كما ‏أن داعش تتمدد بسبب السياسات العنجهية التي تقوم بها الولايات المتحدة والدول الأوربية ضد المسلمين ‏والإستفزازات المتوالية لهم، مما يسهل على التنظيم إستقطاب المزيد من المتطرفين الى صفه. كما ان ‏الحكومات التي تدعمها الولايات المتحدة والدول الأوربية علنا أو خفية كإيران والعراق وسوريا هي ‏حكومات إرهابية أصلا. والإرهاب لا يحارب نفسه. ‏

أوقفوا الظلم ينتهي الإرهاب! هكذا بكل بساطة. التنظيمات الإرهابية تتخذ من الظلم شماعة تتذرع به، ‏وتجذب المتطرفين والجهلة لصفها.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,048,898

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"