من خلال خبرتي الصحفية، غير المتواضعة، عرفت ان هناك الكثيرين من العاملين في حقول الإعلام يسعون للإثارة، باستخدام عنوان مثير، أو صورة مثيرة، أو معلومة مثيرة، قد تكون كلها صحيحة، وقد تكون مفبركة، أو هي بين هذا وذاك. وقد يقع هؤلاء ضحية فبركاتهم، أو تمرَّ تلك الفبركات دون تمحيص فينجو منها من ينجو.
وعرفت، أيضاً، أن الصحف المؤدلجة أكثر من غيرها وقوعاً في شباك التحريف المقصود للأخبار..
وكذلك عرفت أن صحف التابلويد الصفراء، هي التي تبحث عن الإثارة المفبركة، والخبر الكاذب، والصورة المزيفة لتفرقع بذلك صوتاً جالباً للأسماع وشرارة جالبة للأنظار، لكن الصوت والشرارة سرعان ما يختفيان ولا يتركان أثراً لدى القارئ.
غير ان خبرتي الصحفية، برغم عدم تواضعها، لم تعلِّمني ان صحفاً رصينة ذات قيمة كبيرة لدى القراء، تقع في هذا الفخ الذي ينصبه في بعض الأحيان، الحب والكره، أو التوجيه من "أعلى"!
يوم أمس، استفزَّني عنوان على نشرة سي ان ان العربية، ورد ضمن تقرير نشر هنا، يقول: داعش يفضح نفاق أردوغان، حيث ورد في متنه أن التنظيم يزمع افتتاح أول قنصلية له في إسطنبول، والخبر منقول عن صحيفة الخليج الشارقية. نشرته هنا.
الصحيفة الشارقية محترمة ومهمة ولها قراء يفتتحون بصفحاتها نهاراتهم، ولكن الخبر كله مفبرك بطريقة سخيفة وبائسة للغاية.
كيف؟!
أولاً، لست مدافعاً عن الرئيس رجب طيب أردوغان، فالرجل رئيس جمهورية بوزن تركيا وله جهازه الإعلامي الذي يوضِّح ما يشاء ويدافع كما يشاء.
وثانياً، لست مدافعاً عن السياسة الخارجية التركية، فللدولة التركية وزارة خارجية تنفذ سياستها وتشرحها للعالم.
ولكنني، أولاً وثانياً وعاشراً، معنيٌ بالدفاع عن حق القارئ في امتلاك معلومة صحيحة، تحترم وعيه وتفتح عقله.
"الخليج"، ومعها عشرات المواقع المصرية، بنكهة سيسية، وغيرها نشرت الخبر منقولاً عن موقع تركي اسمه "آيدِنلِك". ووضعت له بعض (البهارات) التي يجيدها بعض زملائنا الصحفيين.
لنتعرف أولا على موقع "آيدِنلِك" هذا.
هذا الموقع تابع للشيوعيين الأتراك، بالمناسبة هل هناك من يسمع بهم الآن؟ ولهم صحيفة ورقية بنفس الاسم، أقسم أنني لم أجد، على كثرة ترددي على تركيا في العشر سنوات الأخيرة على الأقل، من يقرأها، أو يبيعها في أكشاك الصحف بالمدن الكبرى، فضلاً عن المدن الأصغر.
ومع ذلك ولأن خبراً مثل هذا لا يمكن أن يمرَّ أو يمرَّر على قارئ مثلي، فقد توجَّهت إلى الموقع فوجدت انه لم ينشر هذا الخبر على أهميته الصاروخية في نسخته التركية، وانما اكتفى بنشره في نسخته الإنجليزية، هنا، ومن الواضح انه يريد بذلك تحقيق هدف خارجي، إذ لو كان المقصود هو إثارة الرأي العام التركي، لنُشِر بلغة القارئ التركي، ولكن بما ان المقصود هو إحداث ضجة في العالم، لذا كان لابد أن ينشر بلغة يفهمها العالم.
ومع ذلك هذا لا يهم، كثيراً.
"آيدِنلِك" في حقيقة الأمر لم ينشر تصريحات لمسؤول داعشي، وانما نقل عن حساب (وهمي طبعاً) على تويتر، وسأقول لكم لاحقاً كيف انه وهمي، يشير إلى نية تنظيم داعش افتتاح قنصلية له في أنقرة، وكل ما يحتويه هذا الحساب الوهمي هو عنوان بريد إلكتروني على موقع جي ميل، بإمكان أي منا صنع عشرات مثله كل يوم.
تركيا بلد سياحي يدخله يومياً عشرات ألوف الأشخاص، ويمكن، أن يكون من بينهم، بسهولة، عناصر مخابرات لتتبع موضوع ما أو شخص ما، وبإمكان كل شخص أن يتأكد، بسهولة، من عدم وجود قنصلية لتنظيم داعش في تركيا.
ثم مع من ستتعامل هذه القنصلية؟
وكيف ستقدم خدماتها؟
ومن سيقوم بالإجراءات القنصلية المعتادة؟
وهناك أسئلة اخرى كثيرة تفضح تهافت هذا الخبر.
أما لماذا هذا الحساب وهمي، فأقول انه حساب وضع لغاية وأغلق بتحققها.
كما سترون في هذه الصورة
والغاية، بالطبع، هي نشر هذا التقرير على "آيدِنلِك" وإثارة الضجة العالمية التي لم يتلقفها إلا من أشرنا إليهم في اعلاه، ثم أغلق الحساب لأنه لا يمكن أن يستمر على تويتر أبداً.
والحساب وهمي ومزيف أيضاً، لأن (الغبي) الذي صنعه نسي أن يتعامل مع اسم هذا التنظيم كما يتداول في الاعلام التركي، فالأتراك، بلغتهم، يختصرون تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ليكون IŞİD وليس كما يختصر في الإعلام الغربي ISIS، لاحظ المربع الأصفر في الصورة الواردة في رأس الموضوع.
ثم ان الحرف المشار إليه بالدائرة الخضراء غير موجود أصلاً في الأبجدية التركية، وأخيراً، وربما يكتشف المتخصصون الأتراك أشياء أخرى، ان التسمية الكاملة المعروفة للتنظيم بحسب اللغة التركية، وليس اختصاراً، هيislam devleti وليس كما ورد في التسمية المشار إليها بالمستطيلين باللون الأحمر.
إنني أنصح الزملاء الصحفيين الذين تلقَّفوا هذا (الخبر) ونشروه باحترام عقل القارئ العربي وعدم الزجَّ به في مهاترات سياسية لا قيمة لها أمام الحقيقة، فقد يجد من نشر هذا الخبر الملفَّق، ببلادة، نفسه غداً مضطراً للتعامل مع خبر يروِّج للرئيس أردوغان وتركيا لو تغير الهوى السياسي باتجاه آخر، وهذه حالة وقع فيها صحفيون وكتابٌ كثيراً من قبل، لم يعرفوا أن هوى السياسة يتقلَّب في اليوم والليلة مثل هوى بائعة الهوى.