أميركا حزينة ولا تنام الليل جراء ما حل بالعراق من دمار وخراب، ومن شدة حبها لهذا البلد، قررت انقاذه من السقوط وانهاء معاناة اهله. ومن اجل ذلك، وضعت خارطة طريق تضمنت:
انهاء تواجد داعش في العراق، ثم التخلص من المليشيات المسلحة، وحل الحشد الشعبي، والغاء جميع القوانين التي صدرت بعد عام 2003، والتي تتعاكس مع قوانين الدولة المدنية، وتعديل الدستور، وتطهير القضاء، وتقديم الفاسدين والسراق والمجرمين الى المحاكم، واقامة نظام فدرالي شبيه بالنظام السويسري، كبديل لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية.
هذا هو ملخص المسرحية البائسة والتافهة والمقززة، التي يعرضها الاعلام الأميركي منذ عدة شهور، لاظهار أميركا بالملاك الصالح والمصلح، لتكون مقبوله من لدن العراقيين الذين فقدوا الثقة بها، حتى تتمكن من تمرير جريمتها التي تنوي ارتكابها في المستقبل القريب، والمقصود هنا تقسيم العراق. بالضبط كما فعلت قبل ارتكاب جريمتها باحتلال العراق. حيث عرضت ذات المسرحية البائسة والتافهة والمقززة، التي صورت فيها أميركا حزينة ايضا، ولن تنام الليل قبل تخليص الشعب العراقي من الظلم والاضطهاد والدكتاتورية والحروب، واقامة نظام ديمقراطي له، وبناء العراق من جديد، وتوفير الحياة المرفهة.الى اخر هذه الترهات المضحكة.
نعم ايها السادة كان بإمكان أميركا تقسيم العراق، سواء بعد الاحتلال مباشرة، او في اعقابه. لكن الذي حال دون ذلك، وجود عدد من العقبات التي اعترضت طريقها، وكان من الصعب تجاوزها، او حتى الاستهانة بها، ولولاها لاصبح العراق مقسما، منذ عدة سنين، الى دويلات متعددة وضعيفة ومتحاربة فيما بينها، على الحدود والماء والثروة والطائفة وغيرها.
وكان من بين اهم هذه العقبات، القتال الدائر حينها بين المقاومة العراقية وقوات الاحتلال، الذي استمر سنين عديدة، الامر الذي منعها من تقسيم العراق، كونه سيصب في صالح المقاومة، التي كات تؤكد على الدوام نية أميركا بتدمير العراق وتقسيمه الى دويلات طائفية وعرقية. وهذا بدوره سيدفع، عموم العراقيين للالتحاق بصفوفها ، خاصة وان أميركا تعلم علم اليقين، بمدى تمسك العراقي الشديد بوحدة بلده واستعداده للدفاع عنها بكل الوسائل الممكنة.
العقبة الاخرى تخص دول الجوار، وخاصة دول الخليج العربي،حيث مارست هذه الدول ضغوطا شديدة لمنع أميركا من تقسيم العراق ، ليس حبا به، وانما تحسبا من انتقال عدواه الى بلدانهم. وأميركا لن تنسى بهذه السرعة حجم الدعم والتعاون والمشاركة، التي قدمتها هذه البلدان لها، سواء في عدوانها على العراق عام 1991 ، او في احتلالها للعراق عام 2003، ناهيك عن الخدمات التي قدمتها في مجال شرعنة الاحتلال والمساعدة في تكريس مشروعه لامد طويل.
ومن هذه العقبات ايضا، حجم الاكاذيب الكثيرة التي ساقتها أميركا لتبرير الاحتلال، والتي يمكن اختصارها بالكذبة الكبرى، بانها جاءت الى العراق من اجل تدمير اسلحة العراق المحظورة، او ذات الدمار الشامل، وتخليص دول اوربا ومدنها من الصواريخ الكيمياوية العراقية التي قالت عن امكانية وصولها الى المدن الاوربية خلال 45 دقيقة، وتقسيم العراق حينها سيكشف، دفعة واحدة، زيف كل هذه الاكاذيب امام دول وشعوب العالم اجمع.
ومع ذلك، وعلى الرغم من خشية أميركا من تجاوز هذه العقبات، فانها لم تتخل عن مشروع تقسيم العراق نهائيا، او وضعه فوق الرفوف العالية، وانما سلكت طرق ووسائل اخرى تبعدها عن الشبهات، وتهيء لها في نفس الوقت، الظروف المناسبة التي تستطيع بعدها تجاوز جميع تلك العقبات. من هذه الوسائل تضمين الدستور مواد ينص بعضها على اعتبار العراق دولة اتحادية، واخرى تنص على منح حق الاستقلال لكل محافظة ،وثالثة خلقت ما سمي بالمناطق المتنازع عليها وهكذا. ومنها اثارة النعرات الطائفية والعرقية لزج شعب العراق في اقتتال طويل الامد على امل ايصال الناس الى قناعة بان العيش بسلام وامان لا يتحقق الا بالتقسيم. ومنها ما هو ناعم مثل تسويق مخطط التقسيم على انه الحل السحري، مرة عبر لجان ومعاهد دراسات كما حصل مع لجنة بيكر- هاملتون التي زارت العراق في نهاية عام 2006 واوصت بتقسيم العراق الى ثلاثة دويلات. وثالثة بواسطة مجلس الشيوخ الذي اتخذ في شهر تشرين اول عام 2007، قراراً بتقسيم العراق.
اليوم وصلت أميركا، على ما يبدو، الى قناعة بان ثمار وسائلها التي استخدمتها قد اينعت وحان قطافها. فدعاة التقسيم الذين كانوا يروجون له عن استحياء نراهم اليوم يطالبون أميركا بالتقسيم بطبقة صوت عالية، ومن دون حياء او خجل، وفئات من الشعب العراقي باتت تنتظر التقسيم ظنا منها بأنه الحل السحري لانهاء معاناتهم من القتل والتهجير والتشريد والجوع والمرض. او لنقل مثل هؤلاء مثل الغريق الذي يتعلق بقشة.
والتقسيم اصبح مقبولا من قبل منظمات سياسية ودينية وعشائرية وشخصيات مستقلة، سواء من داخل العملية السياسية او من خارجها، اعتقادا منهم بانه يؤمن لهم مصالحهم الشخصية او الفئوية التي اصبحت مهددة، او على الاقل يجدون فيه ملاذا امنا من العقاب. والانكى من ذلك، هو امتداد هذه العدوى لتشمل احزاب وقوى وطنية، بل ودخل بعضها كطرف في عملية التنفيذ من خلال حضوره العديد من الاجتماعات التي عقدت بحضور أميركي، ومشاركة خليجية، وعلى وجه الخصوص قطر والسعودية، ولازال هذا النشاط يسير على قدم وساق، ودعك من التبريرات العقيمة التي تصف الاقليم السني المرتقب بالارض المحررة التي ستكون قاعدة انطلاق لتحرير بقية ارض العراق من الاحتلالين الأميركي والايراني.
اما دول الجوار فانها اصبحت راضية تماما عن التقسيم، ولم تعد تخشى من تداعياته الضارة، حيث حصلت على التزام أميركي يضمن لها سلامة حدودها ويحافظ على امنها ويؤمن وحدة اراضيها. ولا يستبعد بانها بدات التفكير بتحقيق اطماعها التاريخية في العراق ، فتركيا تتطلع دوما الى استعادة الموصل او كركوك او كليهما، وايران التي فقدت حلمها في ابتلاع العراق كله ترنوا عيونها على الجنوب. والسعودية ترى في الاقليم السني سدا منيعا ضد التوسع الايراني، وهذا ما يفسر اشتراك دول الجوار، بهذه الطريقة او تلك، في مشروع تقسيم العراق. وقد نجد نموذجا صارخا عنه في التحرك السعودي التركي، للتدخل في سوريا والعراق.
ولكي لا نطيل اكثر، فأميركا قد وضعت مشروع تقسيم العراق موضع التنفيذ. وان المرحلة الاولى منه هو تشكيل الاقليم السني، على غرار الاقليم الكردي في الشمال، على الرغم من تغليف هذا الاسم بمفردات، من قبيل استعادة حقوق السنة في مناطقهم، او بناء جيش وطني للسنة قوامه مئة الف، وهكذا. يتبعه تشكيل اقليم شيعي في الجنوب. هذه هي الحقيقة، واي حديث عن هذا المشروع التقسيمي بانه مجرد شكل من اشكال الانظمة الفدرالية التي تعتمدها الدول المتقدمة، هو حديث ساذج. فمثل هذه المقارنات البائسة لا تتناسب مع العراق الذي يرزح تحت الاحتلال الأميركي والايراني والداعشي والمليشياوي الخ.
نحن اذن امام مواجهة مع صفحة كانت مطوية من مخطط الاحتلال، وهي قد لا تقتصر على تقسيم هذا البلد، وتمزيق وحدته الوطنية فحسب، وانما قد تدخل الشعب العراقي في حروب اهلية طويلة المدى، وليس من الحكمة السياسية الاستهانة بها، فهذا المخطط الغادر يحظى اليوم بدعم دول خارجية وقوى انفصالية محلية ودول جوار اصبحت متحمسة للتقسيم.
هنا لن اتطرق، كما جرت العادة، الى الحلول لمواجهة المصيبة القادمة، بصرف النظر عن وزنها او قيمتها ، تحسبا من التكرار الممل والمؤلم في نفس الوقت، بل اصبح الحديث عنها خداع للنفس وتضليل للذات واستخفاف بالعقول، لانها لم تجد نفعا، مثلما لم تجد نفعا الجهود المضنية التي بذلت فيما يتعلق بوحدة الاحزاب والقوى الوطنية المناهضة للاحتلال ولعمليته السياسية، التي تعد الركيزة الاولى والاخيرة لدحر مثل هذه المشاريع ودحر الاحتلال ذاته، وانما ساتوجه بالنداء لكل المخدوعين، والحالمين والذين لازالوا يراهنون على أميركا، ويتغزلون بانجازتها الديمقراطية، اقول لهم بان أميركا لم تزل مصرة على تدمير العراق كدولة ومجتمع، وان الوصول لهذا الهدف، كما تعتقد، يمر عبر تقسيم العراق، ومن دونه ، فان امكانية عودة العراق من جديد معافى وقويا، امكانية قابلة للتحقيق.
دعونا نسترسل اكثر، فاذا حدث لاي سبب كان، ووجدت أميركا من مصلحتها التخلي عن مشروع التقسيم ، فان الكيان الصهيوني لن يهدأ له بال قبل ان يرى العراق مقسما الى دويلات، بل ممزقا ومفككا. ومعلوم مدى تاثير هذا الكيان في صنع القرارات الأميركية، وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة فيما يخص العراق. وقد نجد مثالا عنها في اعتراف بول بريمر، الحاكم المدني السابق في العراق، بان حل الجيش العراقي جاء بضغط من اسرائيل. بل وازعم بان أميركا العظمى مسروقة من قبل الصهيونية العالمية وكيانها في فلسطين المحتلة.
قبل عام ونصف وعلى وجه التحديد في 26/8/2014 كتبت مقالا تحت عنوان "أميركا ومشروع تقسيم العراق" وبعدها باربعة اشهر طرقت ذات الباب في مقال عنوانه "ذهب المالكي وجاء العبادي والدماء تسيل"، وكلاهما ركز على هذا المخطط وعلى نية أميركا باقامة اقليم سني بعد انهاء وجود داعش في العراق. وقلت، "ومع الوجود المسبق لاقليم الكرد في الشمال، ومطالبات البعض باقامة اقليم في الجنوب، وجدت الادارة الأميركية ضالتها، ودعوت في النهاية، اللهم احفظ العراق من التقسيم، واليوم اردد هذه الدعوة واضيف: لم يبق لنا الان في هذا البلد يالله غير وحدته، فاحفظها لنا، إن كنا غير قادرين على فعل ذلك.