الحاضر الحاضر، حارث الضاري.. عندما تخلد الأفكار

مصطفى كامل

في الأمم مثابات شامخة، إليها يفزع الناس في الملمّات، وفي مسيرة التاريخ علامات فارقة ترسم على جبين الزمان آثاراً لا تُمحى، حتى وإن غاب الجسد، لتبقى الفعال ماثلة حاضرة..

 

ومن مثابات أمتنا في زمنها الحاضر رجلٌ يندر مثيله، مؤمنٌ عنيد، صلبٌ لا ينكسر، واضحٌ لا يُهادن، صريحٌ لا يُجامل، هادئٌ حد التأمل، يمور بالغضب إذا انتهكت حرمات الله وثوابت الوطن، وهو في كل ذلك إنسانٌ ترتاح إليه النفوس وتسكن وتطيب لكلامه العقول وتصغي لحديثه الجوارح.. ذلكم هو الشيخ المجاهد المغفور له، بإذن الله تعالى، حارث الضاري.. الراحل جسداً، الحاضر فعلاً والحاضر أثراً والحاضر مواقف لا تخطئها العين.

تمتد جذور المعرفة الأسرية بين عائلتينا إلى بدايات القرن العشرين، يوم تجاورت الأسرتان في منطقة الكرخ القديمة ببغداد، وامتدت حتى عقد الأربعينات من القرن الفائت، وهي جيرة كان الشيخ، يرحمه الله تعالى، يحفظ حقها وواجبها دائماً، وكان يسأل عن نساء الأسرة كما يسأل عن رجالها، غير انني لإعتبارات عديدة، منها اختلاف محل الإقامة، لم أتشرف بلقاء الرجل الجليل، إلا في عام 1996، يوم التقينا في العاصمة الأردنية بمنزل صديق مشترك، تشاء الأقدار لاحقاً، أن يكون خصماً، لأنه اختار طريقاً كان لابد للشيخ الضاري أن يفترق عنه بسببه..

في ذلك اللقاء، وصفني بالحبيب ابن الحبيب، وظلَّ هذا الوصف مُلازماً لي، يحيطني به كلما التقينا في سنوات ما بعد احتلال العراق، وظلَّ يتعامل معي بمحبة وتقدير يبدو جلياً أينما التقينا ومهما كان الظرف والحال، وحين اشتدَّت عليه آلام المرض أرسلت إليه رغبتي بلقائه والسلام عليه وكنت خَجِلاً من أن أُثقل عليه، فقال لمن نقل رغبتي إليه "مصطفى يحضر متى شاء" والتقينا وتحدثنا طويلاً، وكان يرفض أن أغادر كلما هممت بالاستئذان إشفاقاً عليه من التعب.

ولقد سنحت لي فرص ثمينة عديدة أن ألتقي بالرجل المجاهد في سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي الإيراني للعراق، حيث تحمل الشيخ الجليل مسؤولية جسيمة تصدى لها بكل أمانة منذ لاحت بوادر الجريمة الأميركية بإعلان النية الخبيثة بغزو العراق واحتلاله، فاتخذ موقفاً ثابتاً ظلَّ ممسكاً عليه حتى الرمق الأخير، لم يَحِدْ عنه ولم يُناوِر، ولذلك الثبات الجليل حديث آخر سأشير إليه في الختام.

 

موقف أول

لعل البعض يأخذ على الشيخ الضاري انه قاد هيئة علماء المسلمين بانفرادية قرار، وقد سمعت من ينتقده لهذا، لكنني سأروي موقفاً يشهد الله تعالى عليه، يؤكد ان الرجل كان من أكثر الناس سماعاً لآراء من يحيط به، ويلتزم بما تقرره الجماعة حتى وإن خالف رأيه أو تقاطع مع رغبته.

يوم الثلاثاء 2/12/2003 التقيت الشيخ الجليل في مناسبة اجتماعية، وكنا نحضِّر لوفد يزور إحدى الأقطار العربية، يضمُّ نخبة من الصحفيين والاعلاميين الرافضين للاحتلال ومشروعه السياسي، وكان أول وفد عراقي بهذا المستوى والنوعية يتحرك عربياً، طرحت على الرجل الفكرة، فتحمَّس لها وشجَّع عليها جداً وأكد على ضرورتها، ورجوته أن يشارك ممثل من جريدة البصائر التي كانت الهيئة تصدرها حينذاك ضمن الوفد. فأبدى رغبته بذلك، لكنه طلب مني أن أحضر إلى مقر هيئة علماء المسلمين، في جامع أم المعارك، الذي تغيَّر اسمه حينها إلى جامع أم القرى، ضحى يوم الخميس 4/12 لأعرض على اجتماع للأمانة العامة للهيئة هذا الموضوع، فإذا وافقت الأمانة العامة على ذلك فستشارك الهيئة ضمن الوفد، وإذا لم يحظ المقترح بالقبول فلن تشارك.

ذهبت إلى مقر الهيئة في الموعد المحدد، واستدعيتُ لاجتماع الأمانة العامة، فأجلسني، يرحمه الله، إلى يمينه، وطلب مني أن أعرض المقترح على الحضور، وبعد أن طرحت الأمر دار حوار حول الفكرة ومن يتبناها ومن يشارك في الوفد، ودخلنا في تفاصيل كثيرة، وكان موقف الشيخ الجليل داعماً ومسانداً كما أسلفت، لكن الأمانة العامة قررت أن لا تشارك الهيئة بوفد كهذا، بناءً على تصورات وقناعات تولَّدت لدى بعض الأعضاء.

اعتذر مني الشيخ الضاري بكل لياقة واحترام، لعدم تلبية الدعوة للمشاركة رغم أنه كان يراها ضرورية ومفيدة، ورغم أنه كان يحبذ المشاركة، ولكنه القرار الجماعي الواجب الالتزام به.

 

وموقف ثانٍ

بين الخامس عشر والسابع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، عُقِدَ مؤتمر لدعم القدس في مدينة اسطنبول التركية، نظَّم المؤتمر حينها ملتقى القدس الدولي، وحضرته آلاف الشخصيات العربية والأجنبية.

في اليوم الأخير من الملتقى، السبت 17/11/2007، التمست الحديث مع الشيخ حارث الضاري لأمر مهم جداً في حينها، وخرجنا من القاعة، وبينما كنا نتحدث مرَّ علينا عضو الأمانة العامة للهيئة، الدكتور يحيى الطائي، وعرض على الشيخ الضاري أن ممثل إيران في الملتقى، محمد علي تسخيري، الذي كان يرأس، حينها، هيئة التقريب بين المذاهب، قد أسهب في الحديث عن المقاومات العربية والإسلامية وأغفل المقاومة العراقية ودورها البطولي، وتجاهل ذكر اسمها تماماً!

انتفض الشيخ الجليل المقاوم وغضب غضباً شديداً، إذ كيف تُهمَلُ المقاومة العراقية الباسلة، وقد كانت في أوج قوتها وتسجّل كل يوم انتصارات عديدة على جيش الغزاة المحتلين، تصيب فيهم مقاتلاً وتُثخن فيهم جراحاً، فلم يكن إغفال تسخيري لذلك نسياناً، بل كان تجاهلاً مقصوداً وتعبيراً عن الموقف الإجرامي للنظام الإيراني المتآمر ضد العراق وضد الأمة، والضالع كلياً في جريمة غزو واحتلال العراق.

طلب، يرحمه الله، الحديث من رئيس الجلسة، المستشار المصري عبدالعظيم مغربي، فارتقى المنصة، معتمراً غترته البيضاء ملتفحاً عباءته، وهدر صوته موجهاً أعنف كلام لتسخيري الذي لم يستطع الدفاع عن نفسه وعن موقفه المتهافت فالتزم الصمت الذليل تماماً.

في حديثه القيم، أكد الشيخ الضاري، يرحمه الله تعالى، على أهمية الترابط بين قضيتي فلسطين والعراق، واكد أن "العراقيين يؤمنون بأن قضية فلسطين، وقضية القدس، هي القضية الأولى للأمتين العربية والإسلامية، وأنه مهما عظمت القضايا الأخرى، بالأمة ومهما كانت الرزايا النازلة بها، ومهما بلغت، ومهما ترتب عليها من انكسارات في صفوف الأمة، فإنها تأتي في المرحلة التالية لقضية فلسطين والقدس".
وأوضح أن "العراقيون جميعاً قدّموا من أجل القدس وفلسطين الكثير، لإيمانهم بأن القدس وبغداد وجهان للأمة العربية والإسلامية، فوجود بغداد يعني القدس، وتحرير القدس يعني تحرير بغداد، وما ألمَّ ببغداد- ونحن نَشرُف بهذا- إلا بسبب القدس، ومن شكَّ في ذلك فلينظر إلى من يحتل القدس وفلسطين: هم الصهاينة وأميركا، في دفعها وتأييدها وتمويلها وتزويدها بالسلاح والخبرات للكيان الصهيوني الغاصب". وشدَّد على أن "من يحتل العراق هما أميركا والكيان الصهيوني".

وأعرب عن أسفه الشديد لأنه وجد في بعض كلمات الحاضرين إهمالاً لقضية العراق، وقال "لم يحظ العراق من تلك الكلمات إلا بالنزر اليسير، بل إن البعض يتكلمون عن المقاومات في بعض الأقطار العربية مع اعتزازنا بها وتأييدنا لها دون ذكر للمقاومة العراقية، ودون ذكر للجراح العراقية، ودون ذكر للمصاب العراقي، فلماذا هذا العقوق؟!".

ووجَّه للحاضرين تساؤلاً بقوله "إذا كانت الأنظمة العربية والإسلامية قد غيّبت ذكر العراق ومنها من تواطأ على العراق بفعل فاعل، أو حقد حاقد، أو حسد حاسد فلماذا الشعوب والمؤسسات الشعبية والمؤتمرات العربية الإسلامية تغيب العراق؟". وأردف قائلاً إن "العراق سيتحرر وسيقابل هذا الإهمال وهذا العقوق بالوفاء وبالحب وبالتمسك بأهداف الأمة ككل، وبالعمل من أجل فلسطين التي من أجلها دُمِّر العراق، ومن أجلها احتُلَّ العراق، ومن أجلها حصل ما حصل في العراق".

والتفت إلى تسخيري قائلاً "إذا كنّا نتكلم عن الاحتلال الصهيوني في فلسطين، وعن المشاريع الأجنبية في لبنان، وفي السودان، وفي الصومال، علينا أن نتكلم بمثله عمّا يجري في العراق، وعمّن يفعل هذا الفعل في العراق".

ولأن إدارة الاحتلال الأميركية كانت تتفاوض حينها، في بغداد، مع إدارة الاحتلال الإيرانية حول العراق وتقاسم النفوذ فيه، وكأنه ضيعة أميركية فارسية مشتركة، فقد وجد الشيخ الجليل المقاوم الفرصة مناسبة للتعبير عن موقف المقاومة العراقية من هذا التفاوض الذي يهدف إلى المشاركة في احتلال العراق، واقتسام خيراته، والسيطرة على شعبه، فقال لممثل النظام الإيراني بكل وضوح إن "على من يرفض التفاوض مع الاحتلال والمحتلين، أن يرفض التفاوض مع الاحتلال والمحتلين لا بالنسبة لموضوع فلسطين فقط وإنما بالنسبة لموضوع العراق.. لا أن يتفاوض مع الأميركان على أرض العراق، ونيابة عن أبناء العراق، وكأن العراق لا رجال فيه، أو كأن أبناءه أيتام يحتاجون إلى وصي خارجي!".

وأضاف فاضحاً الازدواجية الفارسية الخبيثة الماكرة التي تستغل قضية فلسطين وتدَّعي الحرص على تحريرها فيما تطعن الأمة في العراق، بالمشاركة الكاملة في احتلاله والإيغال بدماء شعبه، أضاف قوله "من يؤذي العراق فهو على استعداد أن يؤذي غيره من إخوانه العرب والمسلمين.. من يتعاون مع الاحتلال ضد العراق لا يرجى منه أن يخدم الأمة أو أي جزء من أجزائها".

ولأنني كنت شاهداً وحاضراً على ذلك الموقف، يمكنني القول إنني لم أر مخذولاً مقموعاً مثل تسخيري الذي لم يتمكن من الحديث والرد على كلمات الشيخ الضاري، المتسلحة بقوة الحق والمنطق والعدل والإنصاف، تلك الكلمات الواضحة البينة المختصرة التي عبَّرت عن موقف سياسي واضح وحاسم.

 

وموقف ثالث

في زمن الاحتلال والسقوط الحضاري يظهر الرعاع على سطح الأحداث وتتكلم الرويبضات التي لا تفقه من شؤون الدين والدنيا شيئا، فتلبس الحق بالباطل وتلبس الباطل بالحق، وتزيف الأمور أمام الناس، فيصدِّق العوام المخدوعون ذلك!

ومن غريب الأمر أن يتهم رجل مثل الجليل النبيل حارث الضاري بأنه طائفي! وهو الذي يعرف العالم أجمع أنه كان الأحرص على الموقف الوطني الجامع لكل العراقيين، وهو الأمر الذي لاقى بسببه صعوبات جسيمة من دول وأحزاب وأفراد، وواجه نقداً ولوماً مزعجين، لم يتوقفا، من تافهين، حتى بعد ارتقائه إلى رحاب ربه العزيز الرحيم.

في مطلع العام 2005 ارتأى بعض المتصدّين للعمل السياسي عقد اجتماع لنخب من سنة العراق، في شتى المجالات ومن مختلف التيارات، لتدارس أوضاع العراق وأحوال سنة العراق الذين وقع عليهم العبء الأكبر من التنكيل الأميركي بسبب تصدرهم لمقاومة الغزاة المحتلين.

عقد الاجتماع في جامع أم القرى، وتعرض لقصف بالهاونات انطلقت من منطقة الشعلة القريبة، في عمل إرهابي واضح المقاصد الطائفية الإجرامية.

لم يحضر الشيخ حارث الضاري الاجتماع، وبدا لي حينها، بوضوح، ان الهيئة كانت مدعوة فقط، ولم تساهم في الإعداد والتنظيم.

سألت الأخ العزيز مثنى الضاري عن موقف الهيئة من هذا الاجتماع وعن سر غياب الشيخ حارث عنه، فأجابني "دُعينا فحضرنا (وكان يعني أننا لسنا من أعدَّ للاجتماع ولا ساهم في الإعداد)، والوالد لم يحضر لأنه يعتقد أننا إذا تخندقنا باعتبارنا سنة فإننا نعطي الفرصة للمقابلين أن يتخندقوا باعتبارهم شيعة".

بهذه الكلمات، القليلة عدداً، الكبيرة معنى، العميقة فكراً، حسم الشيخ الجليل الأمر: نعم في العراق خندقان متقابلان متضادان، ولكنهما ليسا خندقا السنة والشيعة، بل خندقا الوطن وأعدائه.

من يومها وحتى الرمق الأخير، ظلَّ الشيخ الجليل الأصيل حارث الضاري ممسكاً على جمر الموقف الشريف العزيز، موقف الرجولة والوطنية الذي سار عليه أهله الأماجد، وحافظ عليه هو بكل قوة وارتقى عليه درجات، رغم كل الضغوط والمحن والمصائب التي واجهها، وهو الكريم بن الأكارم.

 

بقي شيء..

سنحت لي فرصة كريمة أن ألقي كلمة في ثالث أيام مجلس عزاء الشيخ الجليل، يوم الاثنين 16 آذار/ مارس 2016، وكان مما قلته فيها:

قال الله تعالى }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً{سورة الأحزاب:23 وهل سوى حارث الضاري من تنطبق عليه هذه الآية الكريمة اليوم؟ وقد عاش يرحمه الله تعالى ثابتاً على جمر الحق موقناً بنصر الله العزيز؟!

وأشرت إلى أن كل الذين كانوا ينتقدون حارث الضاري في حياته كانوا ينتقدونه على ثباته. الآن كلهم يمتدحون فيه ثباته على الحق. ترى هل كانوا يعرفون الحق ولا يلتزمون به؟!

واختتمت قائلاً:

هذا الحضور الغفير الذي تواصل منذ خمسة أيام (أيام مجلس العزاء الثلاثة ويومان قبلها) وسيستمر إلى ما شاء الله تعالى، لم يكن للتعزية برحيل حارث الضاري، الرمز العراقي الكبير والقامة الوطنية الباسقة فحسب، بل هو استفتاء على نهج حارث الضاري المقاوم الخالد في ضمائر الشرفاء، النهج المقاوم المؤمن بوحدة العراق والرافض لكل أشكال التبعية والاحتلال ومحو هوية العراق العريية الاسلامية. 

فلا نامت أعين الجبناء.

..

هذا بعض من معاني أن  يكون حارث الضاري، الحاضر الحاضر بيننا، فقامة سامقة شامخة مثله لا تغيب، ولن تغيب.. كلُّ مافي الأمر، وهو بسيط للغاية، أن الرجل تحوَّل من جسدٍ فانٍ إلى فكرة نبيلة، والأفكار النبيلة الجليلة خالدة لا تموت.

سلام على النبيل الجليل حارث الضاري بين الخالدين، سلامٌ عليه يوم ولد، وسلامٌ عليه يوم رحل إلى ربه راضياً مرضياً، وسلامٌ عليه يوم يبعث حياً، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقا.

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,051,287

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"