كذبة جديدة اسمها حكومة تكنوقراط!

عوني القلمجي

لست بعجلة من امري حين أطرق باب حكومة التكنوقراط قبل تشكيلها، ‏فسكان المنطقة الخضراء، من الحكومة والبرلمان، ومعهم جوقة المطبلين ‏والمرتزقة والاقلام الماجورة، شرعوا، منذ فترة، في تنظيم حملة دعائية ‏كاذبة ومضللة، حول هذه الحكومة المنتظرة، وقدرتها على انقاذ العراق ‏من محنته. فهي كما ادعى حيدر العبادي، "ستضم شخصيات مهنية ‏متخصصة ستساعد على خروج العراق من ظروفه الصعبة التي يمر بها ‏حاليا"!

 

هذه الحكومة بين الناس وكسب التاييد لها، كان على ‏للعبادي ونوابه ورؤساء الكتل تقديم مهرها المعجل. فتعهد العبادي ‏‏"بضرب المفسدين وضرب أعلى رأس فساد في الدولة مهما كان منصبه ‏او حزبه، ودعا الى ثورة حقيقية ضد الفساد وفتح ملفاته الكبرى ووضع ‏رؤوس الفساد خلف القضبان".‏

وفي مستنقع البرلمان تجاوز اعضائه تعهد العبادي وقال قائلهم: "لابد من ‏مشروع وطني متكامل لانقاذ الاقتصاد العراقي، في مقدمة أهدافه اعلان ‏الحرب على الفساد وتفكيك قيوده التي قيد بها نشاط الدولة الاقتصادي ‏لمصلحة نشاطاته. وأن يصار الى وضع خطط متكاملة تهدف الى انقاذ ‏الاقتصاد الزراعي والصناعي ودعم الرأسمال الوطني وتوفير كل ‏المستلزمات لبقائه في البلاد".‏

وعلى حس الطبل خفت ارجل زعماء الكتل وحيتان الفساد، امثال نوري ‏المالكي واياد علاوي واسامة النجيفي وعمار الحكيم وسليم الجبوري ‏وصالح المطلك وغيرهم، فلطموا الخدود وشقوا الجيوب حزنا على الشعب ‏العراقي، وما عاناه من ظلم واضطهاد. وتسابقوا فيما بينهم لعرض ‏بضاعتهم "التكنوقراطية".  حتى خيل لنا، ونحن نسمع ونرى هذه ‏الاعلانات، بان المفسدين ليسوا هؤلاء المساكين،وانما هم بشر هبطوا من ‏كوكب اخر، او من فصيلة الاشباح، او ربما، كما تهكم البعض، بانهم ‏الشعب العراقي، او ابناء الانتفاضة نفسها.‏

ولكي تكون زفة العروس مهيبة، ويتحدث الناس عنها، دخلت أميركا ‏وحلفائها من الفرس والمرجعيات الدينية وغيرهم بكل ثقلهم على خط ‏حكومة التكنوقراط من البوابة السياسية، فطلبوا من العبادي الاسراع ‏بتحقيق بعض الاصلاحات الترقيعية وترميم العملية السياسية. والهدف ‏المركزي من كل هذه المحاولات بالطبع، هو الالتفاف على الانتفاضة ‏وتفريغ شعاراتها من محتواها الحقيقي واقناع ابنائها بالعودة الى بيوتهم ‏بانتظار الفرج "التكونقراطي". ‏

وكان اكثر ما يحزن في هذا الامر اشتراك التيار الصدري في هذه الزفة  ‏بدخوله على خط الانتفاضة، من خلال تاكيد زعيمه مقتدى الصدر على ‏منح العبادي فرصة اخرى لتحقيق الاصلاحات، ومباركته لتشكيل حكومة ‏التكنوقراط من جهة، واصراره على الطابع السلمي للانتفاضة دون غيره ‏من جهة ثانية. الامر الذي ساهم في تسويق هذه الحكومة المنتظرة بين ‏فئات واسعة من العراقيين. ولا يغير من هذه الحقيقة ما يشاع عن حسن ‏نية التيار الصدري، فجهنم مبلطة بالنيات الحسنة.‏

دعونا من هذا وذاك، ونقول بداية، وقبل كل شيء، فان حكومة التكنوقراط ‏الموعودة، ليست وصفة سحرية، يكون التكنوقراطي فيها وطني ونزيه ‏وشريف، والاهم من ذلك، قادر على اصلاح ما افسده الاحتلال وحكوماته ‏المتعاقبة. فمجلس الحكم الذي كان مكون من 25 عضو، كان اغلبهم من ‏التكنوقراط، موزعين ما بين طبيب، مثل ابراهيم الجعفري واياد علاوي ‏وموفق الربيعي ومحمود عثمان وسلامة الخفاجي، وما بين رجال قانون ‏مثل دارا نوري وجلال الطالباني وعدنان الباجه جي ونصير الجادرجي،  ‏ومهندسين مثل يونادم كنة، واقتصاديون مثل احمد الجلبي وحميد مجيد ‏موسى. واكاديمين مثل محسن عبد الحميد ورجاء الخزاعي. وحتى الرجل ‏العشائري الذي يرتدي العباءة والعقال عجيل الياور، فهو مهندس مدني ‏وماجيستير من جامعة واشنطن. وهؤلاء التكنوقراطيون الاشاوس، شكلوا ‏دعامة المحتل ودمروا البلاد والعباد، ولازال الكثير منهم يشغل اهم ‏مناصب الدولة.‏

اما الحكومات التي جاءت بعد مجلس الحكم، وفيها من خير التكنوقراط ‏الكثير، فيكفي وصفها من قبل الانتفاضات المتعاقبة والشعب العراقي، ‏بانها حكومات كاذبة وحرامية، فحكومة نوري المالكي وصفت باهزوجة ‏تقول، "المالكي ونوابه حرامية وكذابة"، ووصفت العبادي وحكومته ‏باهزوجة تقول "باسم الدين باكونا الحرامية". وليس في هذه الاتهمات ‏اي تجني على احد منهم، بل على العكس من ذلك تماما، فهؤلاء استباحوا ‏جميع المحرمات وارتكبوا كبائر الذنوب، كالقتل والتهجير وسرقة قوت ‏الشعب والخيانة الوطنية العظمى ،والقائمة بهذا الخصوص طويلة ‏ومؤلمة. ‏

دعونا نسترسل اكثر، فمن اهم شروط الاصلاح، وجود دولة مدنية، او ‏شبه مدنية، او على الاقل دولة تتوفر بها مؤسسات واجهزة امنية تحفظ ‏امن المواطن وتحميه من التسلط السياسي والقهر الاجتماعي، وجيش ‏قوي يحمي  الحدود من الاعتداءات الخارجية، ولا يسمح  للقوى الاقليمية ‏في التدخل في شؤونه،اضافة الى الفصل بين الدين والدولة‎. ‎

‎ ‎هنا نسال، بالله عليكم، هل توجد فقرة واحدة من اسس هذه الدولة التي ‏ذكرناها  له علاقة بالدولة العراقية، ليفسح المجال امام الحكومة المنتظرة ‏من انجاح مشروعها الاصلاحي؟ ام ان دولتنا العتيدة، دولة تحكمها ‏المليشيات المسلحة، والمحاصصة الطائفية والعرقية، وفساد القضاء، ‏والانتخابات المفصلة على مقاس طائفي ومناطقي، وغياب قانون ‏للاحزاب. ودستور ملغوم يحمي كل هذه المصائب ولا يمكن الغائه او ‏تعديله، او حتى المساس بمادة واحدة من مواده. ‏‎ ‎

ومع كل ذلك، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، فان التوجه لتشكيل ‏حكومة التكنوقراط ، لم يجر التفكير به من اجل انقاذ العراق من محنته، ‏ولا من اجل عيون الشعب العراقي، وانما جرى تحت ضغط الانتفاضة ‏وصمودها،ولو كان بامكان العبادي القضاء على الانتفاضة بالقوة لفعلها، ‏تيمنا بما فعله المالكي مع الانتفاضات التي قامت بعهده. ومرد عجزه ‏يعود، وكما قلنا في مقالات سابقة، الى عدم توفره على اي مبرر، او حتى ‏ذريعة واهية لاستخدام القوة، كالتي وفرها المالكي لنفسه، بصرف النظر ‏عن عدم مشروعيتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان العبادي لم يستطع ‏اتهام الانتفاضة بانها تمثل اجندات خارجية، لان الانتفاضة قامت على ‏اكتاف الناس في المدن الجنوبية، وهم اهله ومن مذهبه بلغة الاحتلال ‏الدارجة، وهو غير قادر على وصف الانتفاضة بالوهابية او التكفيرية او ‏الداعشية، كونها نالت تاييد المرجعية الدينية، بصرف النظر اذا كانت ‏مجبرة او مختارة، وشعارات الانتفاضة جسدت الوحدة الوطنية تحت راية ‏العلم العراقي. وبالتالي لا يمكنه وصفها باحفاد معاوية او ابنه يزيد. ‏والانتفاضة ليس لديها مخيمات في الصحراء حتى تتهم بانها مقرات ‏لتنظيم القاعدة ومخابيء للسلاح.‏

وفق هذه الحقائق، فان الحل الوحيد لانقاذ العراق من محنته لن يات قطعا ‏على يد هؤلاء المفسدين، وعبر الوسائل السلمية فحسب، وانما ياتي عبر ‏مواصلة الانتفاضة بشكل يومي، والعمل على تطويرها الى ثورة شعبية، ‏تستخدم كل الوسائل، بما فيها المسلحة اذا اقتضى الامر ذلك، فهي الطريق ‏الوحيد لاسقاط هذه الحكومة وعمليتها السياسية دفعة واحدة،والاتيان ‏بحكومة وطنية وكفوءة ونزيهة وشجاعة، تعيد للعراق استقلاله وسيادته ‏الوطنية، وتسترجع حقوقه كاملة غير منقوصة.‏

‏ بمعنى اخر اكثر وضوحا، اذا لم يتم القضاء على السبب فلا امل في ‏القضاء على نتائجه، حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان ‏سببه الاحتلال وحكوماته المتعاقبة، واذا لم يتم القضاء على هذا السبب، ‏فانه لا يمكن انهاء معاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. واذا حدث ‏تغيير، فانه لن يتعدى بعض الاصلاحات الترقيعية والتي هي اشبه ‏بالمسكنات التي تخفف عن المريض الامه ولا تقضي عليها. ‏

ان الاصرار على سلمية الانتفاضة مهما حدث سيحولها، في نهاية ‏المطاف، الى مجرد تظاهرات سرعان ما تخف حدتها وتنتهي مع مرور ‏الوقت. خاصة وان هناك اعلام قوي واقلام ماجورة ومرتزقة يروجون ‏مقولات ظاهرها الحق وجوهرها الباطل، من قبيل وقف الحرب وسفك ‏الدماء البريئة واللجوء الى الحوار مع الحكومة والتوصل الى الحلول من ‏خلالها. ويستند هؤلاء لتمرير نواياهم الخبيثة على احداث خلط للمفاهيم ‏السياسية لخدمة ذات الغرض. ونقصد هنا الخلط  بين ما يسمح به المفهوم ‏السياسي السلمي، في ظل بلد مستقر وامن ومستقل وذو سيادة كاملة، ‏وخالي من العملاء والانفصاليين والطائفيين، وبين المفهوم السياسي ‏السلمي في ظل بلد محتل وتعقيدات طائفية وعرقية وساحة تعج بالخونة ‏والعملاء. وفي حالة العراق المحتل، فان الفعل السياسي السلمي، وحده ‏سينهي كل امل في استعادة حقوق العراق واهله.‏

هذا ليس خطاب حرب كما يتخيل البعض، وانما هو منهج سارت عليه كل ‏الشعوب التي ارادت استرجاع حقوقها المهضومة،ومن ضمن هذا ‏المنهج، او في مقدمته، اللجوء الى الثورة، سواء كانت وسيلتها الفعل ‏السياسي، او الفعل المسلح، او كليهما معا. بمعنى اكثر وضوحا، فان ‏اعتماد الثورة على الفعل السياسي، او الطريق السلمي فحسب يعد سذاجة ‏سياسية بامتياز. وخاصة في الحالة العراقية، حيث اسقاط النظام برمته ‏ومحاكمة رموزه الفاسدة وطرد المحتل، لن يتم دون خوض معارك حامية ‏الوسيط في كل مكان. فهذه هي النتيجة الحتمية فيما يخص الثورات ‏الكبرى، التي تضع الشعوب امام نقلة تاريخية تصب لصالحها. هذه هي ‏الحقيقة، ومن يفكر او يراهن على اي مشروع اصلاح يصدر عن هؤلاء ‏السراق والحرامية، ليس سوى مراهنة ساذجة، بل حمقاء، تساهم في ‏استمرار سيل الدماء، شاء اصحابها ام ابو.‏‎ ‎

الشي الاكيد بالنسبة لنا، فان جميع محاولات المحتل وحكومته، وعلى ‏الرغم من كل سياساته وقراراته المسبقة بالقضاء على الانتفاضة، ستفشل ‏حتما، فالشعب العراقي، بمختلف مكوناته واطيافه وقومياته ومذاهبه، ‏سيواصل هذه الانتفاضة، او في اسوا الاحوال، فانه لن يخضع بعد الان ‏للظلم والطغيان ويقبل به كامر واقع. اما اذا حدث وراوحت الانتفاضة ‏مكانها لاي سبب كان، ولم تتطور الى ثورة شامله، فالشعب العراقي سيلد ‏اخرى واخرى واخرى، خاصة وان الاوضاع في طول البلاد وعرضها ‏ستسمر في السير من سيء الى اسوأ. وفي نفس الوقت لن تلوح في ‏الافق اية بارقة امل للانقاذ على يد هؤلاء.‏

هذا ليس حلما، او خيال، او من نسج كاتب هذه السطور، فالشعب العراقي ‏العظيم قادر على فعل ذلك، وقد فعلها في السابق مرات عديدة، وثورات ‏الشعب العراقي الباسلة ضد الاستعمار البريطاني وضد حكوماته العميلة ‏تؤكد هذه الحقيقة، بدا بثورة العشرين المجيدة، ومرورا بثورة 1941 ، ‏وانتهاءا بالانتفاضات التي حدثت في عام 1948 52 و56 والتي توجت ‏بثورة 14 تموز الخالدة. وحدهم اصحاب العقول القاصرة، والتفكير ‏المحدود ينكروا قدرة الشعب العراقي على الانتفاضة السياسية او ‏المسلحة، بل ويستخفوا به، ويطلقون اوصافا مهينة بحقه. على العكس ‏تماما من المحتل الأميركي حيث يجهد نفسه باتخاذ كل الاحتياطات الكفيلة ‏لتجنب حدوثها، ويضع جميع العقبات امامها، ويسلك كل طرق التامر ‏عليها، عساه ان يتمكن من افشالها والقضاء عليها في اليوم الموعود، ‏حتى لا يضيع العراق من بين يديه.‏

هل نحن على موعد مع الثورة المنشودة؟

بالتأكيد نعم.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,061,634

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"