الخالدون في #التاريخ.. #حارث_الضاري أنموذجا

مثنى عبدالله

يطوي الأموات النسيان، فيغادرون على عجل ذاكرتنا المزدحمة بالأحياء، المشغولة بالحاضر والشاخص أمام الأعين من الأشياء. لكن هذا القدر لا يسري على أصحاب البطولة من الأفذاذ، فهم وحدهم من يصارعون النسيان فيطوونه، ويفرضون صورهم وسيرهم ومواقفهم علينا، ويزاحمون حتى الأحياء المشغولة ذاكرتنا بهم. صحيح أن كل الأحياء مقامات وقامات، لكن من هرول التاريخ خلفهم كي يخلدهم، هم الأعلى قامات ومقامات منا نحن الأحياء، لأن كرامتهم أن التاريخ قضى زمنا يلهث خلفهم ليفوز بشرف تخليدهم، بينما نلهث نحن خلفه عسى أن يخلدنا.

 

حتى رمزيتهم تصارع حضورنا، ويفرضون وجودهم علينا فنستسلم لسحر مناقبهم، ونروح نجتر ما قالوا وما فعلوا عسانا نكسب بعض وهجهم. كل الموت موصوف إلا موتهم، فله سحره الخاص لأنهم يؤطرونه بمناقبهم ومواقفهم، التي تبدو للبعض أنها قابلة للاستنساخ والتكرار، لكن محال أن يحدث هذا لأن العزائم تأتي على قدر أهلها، وبون شاسع بين من يصنعون التاريخ وبين من يقرأونه، وبين من كانوا جزءا منه وبين من يستنبطونه.

عام مر على رحيل الشيخ الجليل حارث الضاري الأمين العام السابق لهيئة علماء المسلمين في العراق، لكنه لم يغادر العقول والألباب، ولازالت ذكراه طرية في الذاكرة. لم يكن حضور الرجل حضورا مؤقتا مرتبطا بالأزمة العراقية، بل ولادة مواقفه كانت مرتبطة بجذور التاريخ المقبل من الآباء والأجداد، والازمة هي التي أتت به واستعانت به كي يفك أسر شعب ووطن، فكان على قدر التحدي وعلى مقاس الأزمة، وأثبت في مواقف كثيرة أنه الناسك والزاهد من بين الاخرين، لذا لم ينل اليأس منه موضعا، بينما نال من غيره حتى تساقطوا صرعى في وسط أو بداية المنازلة، فبعضهم انزوى بعيدا عن القضية، وآخرون سقطوا في أحضان الاحتلال والسلطة. قالوا عنه إنه رجل حالم لأنه وضع نفسه في موضع الند لقوى كبرى، وإن الرومانسية الثورية أخذت منه النظرة الواقعية، ووصفوه بأوصاف أخرى كثيرة، لكنه أبى أن يترجل عن صهوة الموقف والفعل البطولي. كان يعلم أن البطولة ليست في الحلول السهلة المعتادة، ولا بالتنازل عن الحقوق تحت تسمية الواقعية السياسية، بل بابتكار المواقف والطرق التي يصعب على الآخرين سلوكها لكنها هي الحل. كان واقعيا ويعرف جيدا أن البطولة ليست دائما يمكن جني ثمارها، لكن الأفذاذ يطلون على الأجيال من عبق التاريخ وإن لم ينتصروا، ويصبحوا رمزية كبرى تُعجل بالنصر على مر الاجيال، فتستحيل مواقفهم إلى قيم ومُثل واعراف وقوانين ورجولة.

كان الضاري رجل دين، لكن ضاق به الحال مرات عديدة حتى اضطر إلى بيع بعض مقتنياته الشخصية كي يستمر كصوت مضاد للباطل، في زمن امتلات فيه جيوب رجال الدين بالاموال، واستقلوا السيارات المصفحة ترافقهم عشرات العناصر من الحمايات. كما دخل معترك السياسة من باب النزاهة لخدمة قضية وطنية، فنُفي من وطنه وحُورب في محافل شقيقة وصديقة، بينما فرشوا السجاد الأحمر لساسة آخرين باعوا القضية وساوموا على شرف العراقيين، فملأوا حقائبهم بملايين الدولارات. قالوا إن الطائفية هي الحل، فجمعوا المؤيديين والأنصار والداعمين الدوليين والإقليميين لهم، وأبى إلا أن يقول بأن الوطنية هي العلاج. وقالوا بأن السلم والأمن يعم العراق حين يأخد كل طرف حصته في الخريطة العراقية، كيانا هزيلا يزويه عن الآخرين، فقال إن العراق هو الحقيقة التي لا تقبل القسمة على أي عدد.

كان المنافسون له كثر في الساحة العراقية، على الرغم من أنهم في خندق المقاومة نفسه، ومع ذلك بعضهم وضع العصي في عجلة حركته، ظنا منهم أنه يأكل من جرف حواضنهم الشعبية ويخطف وهجهم، لكنه كان يقول دائما إن من لديه مشروعا لتحرير العراق فليسير به قدما ونحن وراءه، لأن همه كان التحرير وليس ثمار التحرير. وقد انعكس موقفه هذا على المساعدات التي كانت تقدمها الهيئة إلى المحتاجين من العراقيين، حيث كان العشرات من العراقيين عوائل وأفرادا ممن يقيمون في عمان، يتلقون المساعدات المادية من الهيئة، على الرغم من أن بعضهم كان من كوادر أحزاب وجهات سياسية تختلف أيديولوجياتهم معه. وعلى الرغم من أن البعض كان ينسب الهيئة إلى طائفة دينية، كان الفقيد لا يفرق بين هذا وذاك على أساس طائفي، وكان يرفض باستمرار أن يكون محسوبا على طائفة، لذلك ارتبط بعلاقات حميمية مع شرائح اجتماعية كثيرة من مختلف الأديان والطوائف والأعراق.

وعلى الرغم من أن هيئة علماء المسلمين كانت لها أمانة عامة ومجلس شورى، يقرران نهجها السياسي وتفاعلاتها مع الاحداث، لكنه عكّسّ الكثير من صفاته على عملها، حتى بات من الصعوبة التفريق بينه وبين الهيئة كمؤسسة. فكانت النقلة النوعية في عمل الهيئة حين لم تختصر نفسها في إطار الامور الدينية البحتة، بل انطلقت إلى العمل المؤسساتي، القائم على أساس أرشفة كل الوقائع والأحداث التي يمر بها العراق في كل محافظاته وصولا إلى أبعد قرية فيه، مما وفر مادة وثائقية رصينة لكل المنظمات الإنسانية والقانونية التي تبحث عن حقيقة ما يجري في هذا البلد. كما كان للدور الاغاثي الذي لعبته الهيئة بتوجيه ومتابعة منه شخصيا، أبلغ الاثر في التخفيف من معاناة المهجرين الذين انتشروا على جميع الخريطة العراقية.

يقينا لقد اختصر الضاري تاريخ العراق وتاريخ أبائه وأجداده في شخصيته، فحاز احترام وتقدير الكثير من الجهات والشخصيات السياسية العربية والعالمية، للدور الإيجابي الذي لعبه في خضم الاحداث التي مرت على الوطن، عكس ذلك الحضور الغفير في مجلس العزاء الذي أقيم له. ويبقى الموصوف أكبر من جميع صفاته.

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,621,612

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"