تتواصل المظاهرات ببغداد في ساحة التحرير والاعتصام على أبواب "المستوطنة الخضراء" في أجواء اختلطت فيها كل تناقضات المشهد السياسي في العراق المحتل.
فالمتظاهرون ينتمون إلى مختلف التيارات والخلفيات السياسية والاجتماعية، هناك التوجه المدني المتوجه بعزيمة نحو إقامة دولة مدنية بعد أن أكدت تجربة الإسلام السياسي بكل أحزابه فشلا غير مسبوق في العراق، وبذلك سحب التيار المدني البساط من تحت أقدام كل الجهات السياسية التي ترفع شعارات إسلامية، والتي بدأت بركوب الموجة وحاولت توظيف التظاهرات في استثمار سياسي بائس علّه يزيل ما علق بها من آثام وظهرت صور قادتها على حقيقتها عارية عن كل مساحيق التجميل التي ظلوا يظهرون بها أمام أجهزة الإعلام، ولعل أبرز تلك التناقضات التحاق كثير من أئمة الفساد الأخلاقي والسياسي والمالي والإداري بالتظاهرات وهم يرفعون أصواتهم بموجة أعلى مما يرفعه المتظاهرون المقتنعون بأهداف خروجهم ودواعيها، حتى بات المراقب البعيد عن الوضع العراقي يتساءل عمن هو الفاسد ومنه هو النزيه حقا؟
إن مشاركة رواد الفساد في المقدمة جاء ظنا منهم أن الفوضى "المنظمة" التي يثيرون زوبعتها بأصوات عالية ستخلط الأوراق أمام المواطن العراقي الذي لم يعد ممكنا تمرير شيء عليه من أباطيلهم وما يخططون له.
وسط هذا الضجيج الصاخب للتغطية على الأهداف الحقيقية للتظاهرات التي لو خرجت عن الحدود المرسومة لها لقوبلت بكل أسباب البطش، ومحاولات حرف الأنظار عن دوافع التركيز على "بشائر" التغيير الوزاري الموعود، وما يُنشر من أخبار "الانتصارات العسكرية" في بعض المناطق من جهة ووعود حيدر العبادي عن الإصلاح بحُزًم وردية من جهة أخرى، تتجلى الصورة الحقيقية عن أن هذه الممارسات ليست أكثر من تدريبات لتأدية أدوار في مسرحية بائسة لم يحبك نصها، وأخفق مخرجها وممثلوها في تأدية أدوارهم كما أرادها المنتجون، في هذه الأجواء المشحونة بكل أسباب القلق المشروع لدى الشارع العراقي يتم خنق مدينة الفلوجة وتجويع أهلها بحصار جائر وظالم تفرضه قواتها ومليشياتها الطائفية الحاقدة يترافق مع قصف جوي ومدفعي في إطار نزعة انتقامية تسعى لاقتلاع المدينة من خارطة العراق مع سكانها، وكي لا نكون في موضع من يلقي التهم جزافا، أقول إن من يفتك بالفلوجة بصمت إنما يفعل ذلك مستغلا أجواء ما تشهده بغداد من تظاهرات واعتصامات أمام المستعمرة الخضراء، وما يحصل من إنجازات عسكرية أو هكذا يراد تصويرها، ثم تنفخ فيها نيران المبالغة حتى تغطي على جرائم إبادة جماعية ترتكب من جانب قوات حكومية ومليشيات مرتبطة بها في مدينة المآذن والصمود الفلوجة التي ما تزال الذاكرة الأمريكية تختزن مزيجا من نزعة الانتقام والكراهية.
ما يحصل في الفلوجة يجب أن نسميه إرهاب دولة تزعم أنها تحارب الإرهاب في العراق وهي الطرف الذي يمارسه ليل نهار وسط صمت المنظمات الحقوقية والإنسانية مستغلة شعارا باتت له جاذبية غلابة على صعيد الدول التي نفسها متطورة جدا سياسيا واقتصادياً وثقافياً ولكنها في واقع الحال كانت إلى الأمس القريب من أكثر الدول فتكا بمستعمراتها
في أفريقيا بشكل خاص.
إن تجويع النساء والأطفال بالصورة التي أدت إلى تفضيل الموت اختيارا بالانتحار من جانب أمهات فضلن الموت على رؤية أطفالهن وهم يتضورون جوعا بسبب الحصار الكامل المفروض على المدينة من أناس وأطراف سقطت عنهم آخر شعرة من الغيرة الوطنية والدينية والإنسانية، فتمادوا في غيهم وباتوا يتفاخرون بهذا الإنجاز "الخارق"، إن هذا التجويع يعد جريمة حرب وإبادة للجنس البشري يجب ملاحقة مرتكبيها مهما طال الزمن.
من فرض الحصار اقتبس تقاليده من تجربة الولايات المتحدة في حصارها الظالم على العراق، ولا يجب أن يصاب أحد بالدهشة لما يحصل لسكان الفلوجة من أعدائها لأنهم بذلك يؤكدون سقوط كل شعاراتهم عن حقوق الإنسان في مستنقع الرذيلة، ولكن ما هو موقف مجلس محافظة الأنبار وموقف المحافظ نفسه، وما هو موقف ممثلي المحافظة في مجلس النواب وفي الحكومة؟ بل ما هو موقف الكتل السياسية السنية في العملية السياسية إذا ما أردنا حصرها في بعدها المذهبي وجردناها عن أبعادها الوطنية والدينية والإنسانية؟ هل صار إغراء المناصب وما تدره من ريع ومكاسب يحرككم أكثر من الغيرة على هذه المدينة الباسلة؟ أم أن صمتكم جزء من شروط البقاء فوق كراسي العار التي تجلسون فوقها؟
للتاريخ حكم لن تمحوه تبريراتكم جميعا، فكلكم شركاء في الجريمة التي ستبقى الأجيال تتحدث عنها كما بقي في ذاكرته حصار قريش على شِعب بني هاشم بعد البعثة النبوية المشرفة، فذهب الحصار مع كل ما حمله من عار قتل الأخوة، وبقي الإسلام شامخا وانتصرت الدعوة المحمدية وارتفعت راياتها في مشارق الأرض ومغاربها.