هل من #مانديلا عراقي؟

نزار السامرائي

بين آونة وأخرى تخرج علينا من وراء الأفق دعوات بعضها من نية حسنة، ومعظمها عن سوء نية وقصد أو عن جهل مركب بالاختلافات الاجتماعية والسياسية بين العراق وجنوب أفريقيا، ربما من بين أولى الاختلافات وأهمها أن هناك شعورا بالمواطنة في جنوب أفريقيا البلد الذي احتله الأوربيون قبل عدة قرون، ولكنهم حكموه بسياسة الفصل العنصري فسلبوا المواطن ابن البلد الأصلي حقه بأن يتصرف كإنسان، فجعلوا منه مجرد أداة من أدوات الإنتاج وتم تسخيره من دون إنسانية أو قوانين منظمة لحقوقه في تنمية ثروة أصحاب المناجم والمزارع والمصانع في البلاد، ولكن العالم بمن فيهم الدول التي ينحدر منها المستوطنون لم يمتلكوا الجرأة على الدفاع عن سياسات التمييز العنصري، فتم فرض عقوبات دولية صارمة أتعبت النظام ترافقت مع تنام في مستوى التحدي الذي بدأ السود يشهرونه بوجه السلطة، حتى أوصل الأقلية البيضاء إلى قناعة أن تحكمها بمصير الملايين من السكان الأصليين مستحيل، فاضطرت إلى ترويض نفسها إلى قبول فكرة الدمج العنصري، لاسيما أنها منحدرة من بيئة اجتماعية وسياسية وفكرية عالية المستوى وقادرة على التأقلم مع الظرف الجديد.

 

في العراق نزاع من نوع آخر لا يزيله توزيع عادل للثروة لأنها ليست محتكرة أصلا، ولا تسليم السلطة إلى مجموعة سكانية كانت محرومة منهما معا، فقد أظهرت تجربة أكثر من 13 سنة من حكم الأحزاب الشيعية للعراق، أن ما كان يصطلح عليه بعض المراقبين "بحكم السنة للعراق" أن السنة إذا كانوا يمتلكون السلطة فإن طبقة كبار التجار كانوا من الشيعة، وأن أية مقارنة لنسبة الأثرياء من السنة مع أصحاب الثروة من الشيعة على مدى ثمانين عاما من عمر الدولة العراقية الوطنية الحديثة، ستظهر لنا أن الكفة ستميل لصالح الشيعة، أما إذا أدخلنا المؤسسة الدينية الشيعية إلى المعادلة، فإننا سنتوصل إلى اكتشاف في غاية الخطورة، وهي أن تلك المؤسسة هي أكثر ثراء حتى من الدولة العراقية نفسها بسبب جبايتها للخمس والزكاة، وأن أي فقر في الأوساط الشيعية لم يكن سببه عدم عدالة توزيع الثروة، فالدولة العراقية كانت ذات صبغة مدنية، ومشاريعها التنموية ومصانعها تمتد على طول الرقعة العراقية من دون تمييز، وفرص التوظيف متاحة لكل مواطن على قدم المساواة، وليس ذنب الحكومات المتعاقبة أن حوزات النجف كانت تحّرم التعليم الحديث لأنها كانت حريصة على بقاء عبودية الشيعي للفتوى وهذه العبودية قد ينخفض منسوبها مع حركة التنوير التي ينشرها التعليم، وليس ذنب الحكومات المتعاقبة أن حوزة النجف كانت تعتبر رواتب الدولة حرام ما لم يحللها المرجع الشيعي كي يستولي على خمسها.

أما إذا كانت نسبة الفقراء في الأوساط الشعبية الشيعية هي الأعلى في العراق وهذا هو الحاصل، فالأمر لا يتصل بسياسة الدولة وإنما يرتبط بنظام الإنتاج الزراعي قبل تشريع قانون الإصلاح الزراعي عام 1958 وقانون الإصلاح الزراعي الذي صدر عام 1970، وحتى بعد  صدور القانونين فإن علاقات الإنتاج الزراعي حافظت على أنماطها القديمة التي تعود إلى عصر ملآك الأراضي الذين يمتلكون الأرض وما فوقها من ناس وحيوانات ومزروعات ومنشآت، في حين أن نظام التكافل الاجتماعي في الأوساط السنية كان أفضل منه في الأوساط الشيعية.

فهل تغير شيء من حياة الفلاح الجنوبي بعد استلام الأحزاب الشيعية للسلطة؟

نعم لقد انتقلت السلطة والمال معا إلى الشيعة في العراق على نحو كلي ومن دون أدنى ضوابط قانونية، ولكن ليس إلى كل الشيعة، بل إلى الطبقة الشيعية الحاكمة التي تحولت في غضون سنوات معدودة من حالة الفاقة والتشرد إلى رأس قائمة الأثرياء في العالم، بعد أن سطوا على المال العام وأفرغوا خزينة العراق من كل موجوداتها، على الرغم من أن ما دخل إلى العراق عن تصدير النفط منذ عام 2005 إلى عام 2014  بلغ أكثر 800 مليار دولار، في حين أن مجمل مداخيل العراق من صادرات النفط منذ البدء بتصديره عام 1927 وحتى 2003 كان 250 مليار دولار فقط، تم بها بناء كل المشاريع العمرانية والبنى التحتية والمصانع والمزارع والسدود.

وهنا برزت حقيقة جديدة هي أن الإسلام السياسي بشقيه، لاسيما الشيعي قد نقل الثروة من ملكية الدولة إلى قادة الأحزاب الدينية، وتحول المؤسسة الدينية إلى رأسمالي كبير ومؤثر في مسارا المجتمع بكامله، فجداول الثروة تعطينا تصورا مفزعا عن تضخم ثروة رجال الدين الشيعة وأبنائهم والساسة الشيعية وأقاربهم على نحو لا يمكن تفسيره إلا أنه سطو منظم على ثروة البلد وتحويلها إلى أرصدة في البنوك العالمية وعقارات في أرقى الأحياء في لندن ودبي وعمان وباريس ومدن أوربا والولايات المتحدة، حتى أن فقر فقراء الشيعة قد تفاقم كثيرا كما هو حال كل العراقيين، هذا باستثناء من أمسك بيده مفاتيح السلطة والمال، إن تراجع مستوى التعليم وتفشي الأمية مجددا وانعدام الخدمات الطبية التي يطمئن المواطن إلى نجاعتها تسبب في هجرة عالية من العراق ومن أغرب الظواهر أن معظم ساسة العراق هم من حملة جنسيات غي عراقية وأن عائلاتهم تعيش في الخارج ويؤدي كثير منهم مهماته الوظيفية بالمراسلة.

بلد يعيش أزمة الهوية والانتماء مثل العراق، لا يصلح له أن ينتشله إلا نبي مرسل له معجزة واحدة هي التعاطي مع ثنائية الشخصية العراقية بل ثلاثيتها ورباعيتها وخماسيتها، ولو أن نلسون مانديلا عاش في العراق وحاول حل مشاكله لقضى عمره في البحث عن مخرج ليفاجئ بألف باب مغلق أمامه.

ولو أن جنوب أفريقيا تحدّها إيران من شرقها أو من أية جهة وهي التي ترى في نفسها الحق في فرض قراءتها للمشهد السياسي والديني والاجتماعي على العراق وتحمل مورثا وأوهاما عن صلاتها به، ما كان بإمكان مانديلا إشاعة التسامح في بلده، مشكلة العراق تنحصر في نقطة مركزية واحدة وهي أن الحاكم الشيعي الملتزم طائفيا لا يستطيع البت بأمر ما لم يأخذ رأي مرجع التقليد، فكيف إذا كان مرجع التقليد يقبع في مدينة خارج العراق اسمها طهران أو قم وأن هذا المرجع يقضي معظم وقته في وضع الخطط لتدمير العراق وليس لبنائه.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,056,614

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"