العراقيون والرمز التاريخي

الصورة: تمثال مؤسس بغداد أبوجعفر المنصور محطماً بعد تفجيره في أول أيام الاحتلال الأميركي. أرشيفية.

نزار السامرائي

افتتح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، رابع أطول جسر معلق في العالم، أطلق الأتراك على الجسر اسم "جسر عثمان غازي" وعثمان غازي هو أبو السلاطين العثمانيين، واسمه الكامل عثمان خان الأول بن أرطغرل بن سليمان.

 

ليس هذا هو موضوعنا ولسنا في معرض تنفيذ حملة علاقات عامة لصالح تركيا، ولكننا نعرف أن تركيا الحديثة التي تأسست عام 1923 على يد كمال أتاتورك والتي أقام نظامها العلماني بكل صرامة، حتى عدّه المفكرون أنه لم يكن علمانياً بالمعنى المدني المتعارف عليه الذي يفترض به عدم الانحياز لا إلى جانب الدين ولا إلى جانب أعداء الدين، فأتاتورك ناصب الإسلام عداء بنزعة تصادمية لم يشهد لها التاريخ مثيلا من أيام محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس فألغى التعامل بالحرف العربي وألغى الأذان بالعربية ومنع التعليم الديني ومنع الحجاب.

واستمر غياب الخطاب الديني في تركيا عدة عقود ما عدا حالات تململ لدى بعض النخب الإسلامية التي كانت تستجيب لإرادة الإنسان التركي وترى في هجرة تركيا عن دينها انسلاخا عن الهوية الحقيقية لكل ما تم إنجازه في تركيا العثمانية من فتوحات وعمران وحضارة.

ومع كل ما بذل في الحقبة الأتاتوركية من محاولة سلخ تركيا عن نبضها الإسلامي، فإننا إذا ألقينا نظرة سريعة على أسماء الأحياء والشوارع والجسور في كل المدن التركية سنراها إما احتفظت بأسمائها الأصلية لرموز الدولة العثمانية ولم يقدم أتاتورك على إلغائها، أو أن المنجز حديثا منها أخذ اسما من التاريخ نفسه، فلا يشعر التركي العلماني وحتى المتطرف ضد الإسلام بالخزي أو العار إذا ما ذكر أمامه تاريخ الدولة العثمانية، وهنا يمكن أن نستدل على الموقف التركي الحازم لجميع الكتل والأحزاب السياسية والجيش من موضوع "إبادة الأرمن" والتي يزعم أن الدولة العثمانية ارتكبتها.

أما الإيرانيون فلا يختلفون عن الأتراك باعتزازهم بتاريخهم الخاص على الرغم من تاريخ فارس كله تاريخ عداء للإسلام أو تآمر عليه، أما قبل الإسلام فتاريخ عداء للعرب ونزعة للتوسع على حساب أرضهم، واهتمت إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي ووالده، وقبلهما الأسرة القاجارية ومن بعد ذلك نظام الولي الفقيه الذي يحكم باسم الإسلام، لكنه لم يتنكر لمفردة من تاريخ فارس هذا إذا استثنينا نظام الشاه، وهذه عقدة قريبة ما تزال تفرض حضورها على إرث خميني وأتباعه ولكنها ستزول مع الوقت ليستعيد بهلوي كل ما ركّزه عن نفسه خلال حكمه.

اعتزاز إيران برموزها الحقيقية أو المختلقة واضح بجلاء، سواء من الملوك أو الشعراء أو المفكرين الفرس خاصة، مع إهمال واضح للرموز من القوميات الأخرى وخاصة الآذريين الذين سخرهم الفرس لتحقيق معظم أهدافهم السياسية، وموضوع الاعتزاز بالرموز حق لا ننازعهم فيه، بل إن اعتزازهم برموزهم ذات السجل الأسود في التاريخ العربي الإسلامي وصل حدا من النزعة الاستفزازية أن دولة تزعم الإسلام وتطرح نفسها قوة عالمية تريد من المسلمين اقتفاء خطواتها، أنها أقامت ضريحا ضخما فيه من الفخامة أكثر مما في أضرحة أئمتهم لقبر مزعوم للقاتل المجوسي أبو لؤلؤة الفيروزي الذي اغتال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ما يجري في تركيا وإيران ليس استثناء عما حوله، بل هو السائد في كل البلدان والأمم التي تحترم نفسها وتاريخها، وحتى تلك التي تعيش حاضرا بلا ماض تستميت في تلفيق تاريخ لها وتضفي عليه هالات من مجد مزعوم، وتجعل منه واقعا مفروضا بقوة التكرار، ولعل أبرز مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعيش حاضرا متألقا في المنجزات العلمية والقوة الاقتصادية والسياسية، ولأنها أمة بلا تاريخ فقد راحت تبحث عن تاريخ تعتز به وتدرسه في مدارسها وجامعاتها، فوضعت قادتها والمهاجرين الأوائل على لائحة العظام، بل اختارت لنفسها اسما مستمدا من أحد مكتشفيها.

أذكر أنني زرت الصين الشعبية عام 1980 ضمن وفد عراقي بدعوة من وزير الثقافة الصيني، وأنه أقام لوفدنا دعوة عشاء في مطعم "البطة" في بيكين، ومن المفارقات في ذلك المطعم أن أحد العاملين فيه وفي نطاق ترحيبه بضيوف الدولة أنه يعطي لمحة قصيرة عن تاريخ المطعم الذي يقد سلسلة من الوجبات التي يحتوي كل منها على جزء من البطة، وأهم ما في الإيجاز أن عمر هذا المطعم أطول من عمر الولايات المتحدة بسنوات.

أما في العراق فهناك غصة من هذا الشعب مبدع الحرف الأول والعجلة، وكل ما تعتز الإنسانية به كان قد تنفس نسمته الأولى في ميزوبيتاميا، ولكن الشعب العراقي ثائر على الحق والباطل، هو الشعب الذي قهر الفرس في ذي قار وفي القادسية، ولعل المثل الذي يقول "ما كبت عجاجة إلا من أرض بابل" تجسد معنى القوة وجحافل جيوش الفتح التي قهرت الدنيا وتجسدها الحكمة البابلية، "لن يبسط سيطرته على أركان الأرض الأربعة إلا من دانت له بابل".

فما بال هذا الشعب الذي شعت بإبداعاته حضارة بغداد المنصور والرشيد ودار حكمة المأمون وعمورية المعتصم والمدرسة المستنصرية التي ذاع صيتها في الآفاق، وما بال الشعب الذي جرّع خميني كأس السم حتى مات كمدا بعد أقل من سنة على تجرعه لذلك الكأس في حرب الثماني سنوات، ما بال هذا الشعب يتحول في لحظة انقطاع حبل القانون إلى إنسان آخر لا صلة له بماضيه حتى لقبل دقائق؟ ما باله ينتقل من المسجد إلى السلب والنهب؟ وما باله وبعد أن مرّغ أنف خميني في مكب القمامة، نراه يحطم تمثال أبي جعفر المنصور ويحول شارع الرشيد إلى أكبر مكب للنفايات تحت الشمس في حاضرة الدولة العربية العباسية؟ وما بال هذا الشعب يستمرئ رؤية اسم خميني وخامنئي وصورهما في شوارعه وساحاته العامة ومدنه؟ ما بال هذا الشعب الذي يعاني من شيزوفرنيا اجتماعية سياسية حضارية، ويتحول كالمجنون الذي يلحق بنفسه كل هذا الضيم والقهر؟!

نعم ما بال هذا الشعب الذي تحول إلى قطيع يقوده قطيع غبي من المعممين السراق واللصوص ومحرفي الدين وأصحاب فتاوى المتعة والخمس والجهاد الكفائي؟

إن هؤلاء ومهما كادوا كيدهم لن يستطيعوا إزالة اقتران اسم بغداد بالمنصور والرشيد والمأمون، مهما أنفقوا فلن يتمكنوا من حذف الحضارة العراقية القديمة أو الحضارة العربية العباسية، ولن يكون بوسع أحد أن يطلق على بغداد اسم بغداد السيستاني أو أي اسم من حثالات العصر، الذين جاء بهم زبد البحر وألقى بهم على شواطئ العراق الطاهرة.

أليس منهم أو فيهم رجل رشيد؟!

لقد بلغ السيل الزبى بل تجاوزها وأغرق الوادي وقمم الجبال.

والله المستعان.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,624,802

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"