الصورة: سفينة "مافي مرمرة" التي تسببت بقطع العلاقات بين الطرفين. أرشيفية.
جهاد بشير
المنطق يُحتّم على مَن يتعاطى مع تطور الأحداث التي برزت على المشهد التركي مؤخرا، أن يتناول الموضوع من وجهين كل على حده، ثم يربط بينهما في الآخر.
فالوجه الأول يتعلق بالحديث عن التطبيع من منطلق سياسي وفي إطار العلاقات بين الدول والحكومات دون اعتبار للإيديولوجيات والخلفيات العقدية، وكذلك بغض النظر عن الاعتراف بما تسمى "دولة إسرائيل" من عدمه.
هذا التطبيع نتيجة منطقية في العلاقات بين البلدين، رغم أنه تأخر كثيرا مقارنة بطبيعة أسباب تردي العلاقات ودواعي القطيعة بين أنقرة وتل أبيب، فالتطبيع ناجح مصلحيا وسياسيا لكلا الطرفين ولهما حصة الأسد من المصالح الاقتصادية والسياسية على مستوى المنطقة والعالم، وقد يكون لغزة والفلسطينيين بعض المتنفس المحدود في جوانب معينة ولاسيما الاقتصادية والخدمية وما شابه، مع عدم إغفال التجارب السابقة مع الكيان الصهيوني ونكوثها للاتفاقيات والوعود.
لكن ما يثير التساؤل هو توقيت الإعلان عنه، ومدى علاقة ذلك مع ما يجري في الاتحاد الأوروبي من فوضى سياسيةـ إن صح التعبيرـ على خلفية استفتاء بريطانيا وهمّها مغادرة الاتحاد ما قد يدعو دولاً أخرى لحذو خطاها وتفاقم المشهد أكثر، فضلاً عن عدم التزام الاتحاد الأوروبي بتعهداته لتركيا بشأن رفع التأشيرة عن مواطنيها، بعد إنهاء ملف المهاجرين وما يتعلق بهذا السياق من مطالب الاتحاد لأنقرة التي اعترضت على بعضها وفي مقدمتها تغيير قانون "الإرهاب"، ما عقّد المشكلة أكثر.
التطبيع أو فلنسمّه إعادة تنشيط العلاقات، تضمن- فيما أعلن عنه- تصدير الكيان الصهيوني للغاز نحو أوروبا عن طريق تركيا، وفي ذلك إشارة تقوّي هذا التساؤل وتزيد من التكهنات بشأن التوقيت.
وعلى كل حال فالتوقيت بمعناه الحرفي رغم أنه ليس بتلك الأهمية التي تدعو للتأخر عندها، قياساً إلى حجم المصالح المتبادلة والمنافع التي ستجنيها كل من أنقرة وتل أبيب في المنطقة بشكل خاص، إلا أنه سيسهم قطعاً في معرفة أمور أخرى لم تظهر على العلن.
أما الوجه الآخر: فهو المنطلق الإسلامي والرؤية المتعلقة بهذا الموضوع من منطقات عقدية كون حزب العدالة والتنمية الذي يقود تركيا، حزباً إسلامياً، والواجب عليه ترويض السياسة ضمن ثوابت الإسلام وعقائده المستمدة من الوحي وفي مضمار العمل السياسي المحدد بها.
لا شك أن ما من مسلم في هذا العالم إلا وابتهج فرحا حينما قطعت تركيا علاقتها بالكيان الصهيوني بعد أحداث سفينة مرمرة في 2010، حتى أولئك الذين نظروا إلى الحدث من زاوية أخرى واعتبروا أن تركيا لم تخاصم (إسرائيل) إلا عندما لسعت بنيرانها، استبشروا بالمجمل من هذه القطيعة ورأوا أن هذا الخصام دين وعقيدة، وحين تعود تركيا لـ"تتنازل" وترجع العلاقات كما كانت فإن ذلك بمثابة نكوص على الثوابت التي سبق لها أن عادت إلى جادتها حينما خاصمت تل أبيب.
ومن هنا، فإن إحسان الظن يقودنا إلى القول بأن التطبيع جاء استجابة لضغوط لم تعد تركيا تقوى على مواجهتها لاسيما بعد تطور الأحداث المتعلقة بالثورة السورية وموقف أنقرة منها، والتصعيد الذي تشهده تركيا من الداخل والتحديات الناجمة عنه، ويتجلى هذا الفهم أكثر بالاعتذار الذي قدّمه أردوغان لبوتين عن حادث إسقاط الطائرة الروسية التي كانت تشن عدوانا على سورية، دون أن يتضح حتى الآن مبرر هذا الاعتذار في الوقت الذي تواصل موسكو جرائمها التي تتفاقم يوما بعد آخر تجاه الشعب السوري المسلم والذي تعتبر تركيا أنها واجهة سياسية وإنسانية له في ثورته!
تلك الضغوط لا تعد مبرراً للمسلم في أن يعود لمحاباة المحتلين خاصة بعد أن تقطَّعت وشائج العلاقات القديمة، ولو تمَّت مقارنة هذا التطبيع مع حجم المصالح التي ستجنيها الأمة- وهو المصطلح التبريري الوحيد الذي من الممكن أن يُتداول في هذا السياق- فإنها- المقارنة- ستُظهِر تبايناً شاسعاً بين مصالح مفترضة شبه معدومة بالنسبة للأمة بعمومها، وبين مكاسب فئوية ومحدودة لتركيا ستمنح مقابلها العدو المحتل امتيازات لا يستحقها وغير جدير بها!
الجزئية التي من الممكن أن تكون محل خلاف في تبرير التطبيع، هو ما يتعلق بفك الحصار عن غزة وإغاثة الشعب الفلسطيني المسلم وتقديم الخدمات له في طريق نيله الحرية، وعمل تركيا على ذلك يتطلب البدء بتطبيع العلاقات وصولاً إلى المبتغى.
وفي الحقيقية فإن هذا التبرير مرفوض، لأن بإمكان الدول المسلمة، وفي مقدمتها تركيا، أن تحصل على هذا الأمر بممارستها الضغط على الكيان الصهيوني حتى لو اقتضى الأمر شن حرب معه، وتحصيل حقوق الفلسطينيين بالقوة، فهذا هو واجب الوقت على المسلمين حكاماً وشعوباً، وثوابت الدين واضحة في جهاد الكفار المحتلين والمحاربين لا تقف عند حدود مصالح الحكومات والاتفاقيات الدولية ولا تعطي اعتباراً لمعايير أو بروتوكولات دبلوماسية وما شابه.
وبالعودة إلى الربط بين الوجهين، يكون لزاماً على حكام تركيا باعتبارهم مسلمين، وعلى غيرهم من الإسلاميين الذين يرون أن الوصول إلى السلطة في شكلها الحالي هدف استراتيجي للتغيير، أن يكفوا عن محاولة إيجاد مساحات للتوازن بين ثوابت الدين ومقتضيات العمل السياسي في إطاره النظام العالمي ووجهات نظر الغرب الذي يفرض سطوته على الحكومات أجمع، فإن تلك المحاولات لن تفضي إلا إلى تمييع العقيدة الإسلامية في أفكارهم أولاً وفي حسِّ جماهيرهم بالمحصلة!
والرؤية السياسية الصحيحة تقتضي أن الجمع بين الوجهين يستلزم انصهار أحدهما في الآخر ليروّض به، ويُسخر لخدمته، أو بمعنى آخر، أن يهيمن أحدهما على الثاني بحيث يكون الأول ثابتاً وركيزة أساسية للعمل، بينما يُستفاد من نظيره في الوسائل والأدوات من دون إطلاق.
ولذلك، فإن على السياسي المسلم أن يتحلى بالقوة والشجاعة للإجابة عن تساؤل بدهي ومنطقي، أي من الوجهين يجب أن يُضحى به ليُصهر في الآخر: ثوابت الدين أم بروتوكولات العمل السياسي غير الإسلامي؟!