ملحمة الشعب التركي

محمد الجميلي

تفاجأ العالم بخبر الانقلاب العسكري في تركيا يوم الجمعة 15 ‏تموز، ووقع الخبر كالصدمة- كما يظهر- لدى بعض مراكز ‏القرار والعواصم الكبرى، ولكن الصدمة الكبيرة كانت لدى ‏الشعب التركي الذي ذُهل وهو يرى الدبابات تجوب الشوارع ‏وتقطع الطرق وتحاصر المطارات، وزاد في ذهوله مشهد ‏مذيعة التلفزيون الرسمي تي آر تي، تيجان كاراش، وهي تذيع ‏البيان رقم واحد للانقلابيين- مع أن الكثير لم يلحظ اصفرار ‏وجهها وارتجافها- تحت تهديد السلاح!

 

وظل الشعب واجما غير ‏مصدق وهو يستمع لفقرات البيان وإعلان الأحكام العرفية وحظر ‏التجوال وتعطيل الدستور ، حتى أطل عليهم الرئيس أردوغان ‏عبر جواله مؤكدا وقوع الانقلاب وداعيا شعبه للنزول للميادين ‏لكسر الانقلاب وحماية الشرعية ، ليظهر للعالم فور انتهاء ‏الرئيس من دعوته الملحمةُ التي صنعها الشعب التركي بشجاعته ‏واستبساله وفدائيته التي أربكت الانقلابيين، ومن وراءهم، ولم ‏تمض ساعات حتى قُبِر الانقلاب وتساقط الانقلابيون بيد الشعب ‏المنتفض وأجهزة الأمن بالعشرات ثم بالمئات ثم فر البعض إلى ‏اليونان ثم تنفس الأتراك الصعداء بينما علت الخيبة وجوه من ‏هلل للانقلاب أول الأمر وانتهى أمر الانقلاب، لكن حكاية ‏الملحمة التي سطرها الشعب التركي بدمه وروحه لم تنته بعد ‏ومازالت الحكاية مستمرة ويتابع العالم كل يوم صورا جديدة من ‏صور الاستبسال ومقاومة الدبابات بصدور عارية ، ملحمةٌ لا ‏يجادل فيها إلا أعمى البصر والبصيرة ، وسيقال الكثير ويُكتبُ ‏الكثير عن شعب أعزل وقف بوجه الدبابات وقذائفها وقفز على ‏ظهورها وعلاها وبعضهم علته بجنازيرها ولكنه لم يهن ولم يلِن ‏ولم يتراجع حتى كسر الانقلابَ وأحبطه ، وسطر ملحمته التي ‏يفخر بها الأحرار جميعهم وفي كل مكان ، وحديثي في السطور ‏القادمة عن هذه الملحمة كيف صنعها الشعب التركي يوم الخامس ‏عشر من تموز؟!‏

أولًا: في حوار مع باحث تركي سألته عن سر هذا الطوفان ‏الشعبي بمختلف الأطياف والأعمار الذي ملأ الشوارع والميادين ‏في وقت قياسي ومجابهة الدبابات بصدور عارية حدثني عن ‏انقلاب كنعان أفرين عام 1980م وكيف استبشر به الشعب ‏التركي وظنه المخلص له من الواقع المزري الذي كان سائدا ‏يومها حيث الاغتيالات والتصفيات والقتال بالوكالة عن الاتحاد ‏السوفيتي والولايات المتحدة  بين اليمين واليسار الذي أرهق ‏الشعب كثيرا مما حدا به أن يؤيد الانقلاب ويهتف للعسكر ‏باعتباره المنقذ والمخلص ولكن مرت الأيام والسنون وخاب فأله ‏وبانت عورات الانقلاب وشروره حيث تم اعتقال 650 ألف ‏شخص ومحاكمة 230 ألف شخص فضلا عن فرار 30 ألف ‏شخص خارج البلاد ومئات أحكام الإعدام ومئات الوفيات تحت ‏التعذيب والقضاء على الديمقراطية التي أوصلت الإسلاميين ‏بقيادة حزب السلامة الوطني للبرلمان لأول مرة ، فكان درسا ‏بليغا للشعب التركي أن الانقلابات العسكرية ليست حلا وأن ‏الجيش لا يصلح للتدخل في السياسة وأن مهمته الرئيسة حماية ‏الأمن القومي وحدود البلاد من الأخطار وتيقن الشعب حينها ‏ولكن بعد فوات الأوان أن تأييده للانقلاب كان مجازفة وخطأ ‏فادحا دفع ثمنه غاليا من حياته وحياة أبنائه ومستقبلهم وقد رسخ ‏ذلك في وعيه وشعوره ، وهو الذي استنهض إرادته يوم 15 ‏تموز كي لا يتكرر ذلك الذي رآه بعينه أو حدثه عنه الآباء ولم ‏يكن لدى الشعب التركي شك ولو واحد بالألف أن هذا الانقلاب ‏إن نجح فسوف تحل الكارثة ، ولذلك وقف الشعب كله وبمختلف ‏أطيافه وتوجهاته ضد الانقلاب بل إن وسائل الإعلام التركية ‏المعارضة لم يجد الانقلابيون منها ما يؤيد انقلابهم وكانت صور ‏الطوفان الشعبي الرافض للانقلاب تُبث على كل القنوات ‏الفضائية حتى المعارضة منها مما ساهم بسرعة كسر الانقلاب.‏

ثانيا : قطع الشعب التركي شوطا كبيرا في ممارسة الخيار ‏الديمقراطي وهو يعتبر أن الاستقرار السياسي والاقتصادي ثمرة ‏من ثمار هذا الخيار وأن التداول السلمي للسلطة جزء من ‏المنجزات التي كسبها بعد تضحيات كبيرة ومعاناة قاسية ولا ‏يريد أن يفرط به ولا يسمح لأحد أن يضع يده عليه أو يحرمه ‏منه وحين نزل كالطوفان يوم الملحمة في 15 تموز كان يعلم أن ‏الانقلاب يستهدف هذا الخيار الذي جعله في مصاف الدول ‏المتقدمة وأن الانقلاب إن نجح فسيعود كل شيئ القهقرا.‏

ثالثا : ينظر الشعب التركي لما يعيشه يوميا في حياته العملية ‏اليومية من تطور في المواصلات وتناقص في معدلات البطالة ‏وتزايد مشاريع البنى التحتية التي تصدرت تركيا المركز الأول ‏في العالم فيها بمليارات الدولارات والقضاء على الفساد المالي ‏والإداري بنسبة كبيرة ، ينظر الشعب التركي إلى كل ذلك بأنه ‏نتيجة حتمية لما يريد الانقلاب العسكري القضاء عليه وأتذكر ‏مواطنا تركيا سُئل بعد الانتخابات الأخيرة لماذا صوتت لحزب ‏العدالة والتنمية فقال إنه كان يستغرق ست ساعات من مقر عمله ‏للوصول لمركز مدينته حيث بيته ولكنه اليوم بفضل العدالة ‏والتنمية يحتاج لساعة واحدة فقط ليكون بين أبنائه ، هذا التصور ‏موجود لدى غالبية الشعب التركي بصورة أو أخرى وكان نزوله ‏للشارع ليلة الانقلاب لحماية هذه المنجزات.‏

رابعا : لدى الشعب التركي اليوم قناعة تامة ووعي جازم بأن ‏الانقلابات السابقة كلها قد جرى فبركة أسبابها وتهيئة ظروفها من ‏قبل جهات معادية للشعب التركي وأنه قد ضُحِك عليه في كونها ‏المنقذ والمخلص من الأزمات التي تأكد له اليوم أن الانقلابيين ‏كانوا وراءها لتكون سببا موجبا للانقلاب ، وتسمع الكثير من ‏الأتراك يحدثونك عن وقوف المخابرات المركزية الأمريكية ‏وراء الانقلابات السابقة في تركيا ، ومن المواقف التي تتردد في ‏مجالسهم قصة انقلاب كنعان أفرين عام 1980م وكيف أن ‏الرئيس الأمريكي جيمي كارتر كان في حفل موسيقي عندما ‏ورده اتصال السي آي أي ساعة الانقلاب يخبره : (لقد فعلها ‏غلماننا) !!‏

خامسا : الشعب التركي ليس غافلا عما يجري حوله في دول ‏الجوار وخصوصا سورية والعراق ، وعدد كبير من الأتراك ‏يتحدثون الآن عن خديعة أمريكا للشعب العراقي تحت ذريعة ‏جلب الديمقراطية والخلاص من ديكتاتورية نظام صدام حسين ‏وكيف أصبح حال العراقيين اليوم بين ملايين مهجرين أو ‏نازحين داخل بلدهم ومئات الآلاف يقيمون في تركيا هربا من ‏الموت والكارثة التي حلت بعد الاحتلال ، ويراقب الأتراك يوميا ‏ما حل بالسوريين على يد جيش النظام السوري والمليشيات ‏الوافدة والقصف الجوي الوحشي الذي جعل الملايين منهم ‏لاجئين في تركيا فضلا عن المهاجرين للغرب أو من ابتلعتهم ‏البحار ، ولذلك تسمع من الأتراك عبارة مشهورة يقولون: إذا ‏كان العراقيون والسوريون هربوا إلينا ووجدوا لهم ملجأ في ‏تركيا فمن يستقبلنا نحن إن حل بنا ما حل بهم لا قدر الله ؟ ‏بلغاريا أم اليونان أم إيران؟ أين نذهب؟!! ولهذا نزل الشعب ‏التركي بقوة وأجهض الانقلاب.‏

سادسا : الشعب التركي بغالبيته شعب مسلم وقد وجد في حزب ‏العدالة والتنمية ما خلصه من ظلم متراكم لعقود من الزمن ‏حرمهم من أبسط حقوق المواطنة حتى حرية ما تلبسه نساؤهم ‏وبناتهم في المدارس والجامعات وكان استلام العدالة والتنمية ‏للحكم بارقة أمل لكثير منهم أن ترفع عنهم القيود والأغلال التي ‏كانت عليهم من قبل ، ويوقن هؤلاء أن الحملة الشرسة على ‏تركيا هي في الأساس حملة ضد نظام سياسي لا يعادي الدين ‏ويعطي الحرية للجميع لممارسة ما يعتقدون ، ولذلك فإن قسما ‏كبيرا من الشعب التركي نزل للميادين لحماية هذا النظام الذي ‏كفل لهم حرية تدينهم ، وهم موقنون أن الانقلاب يستهدفه لهذا ‏السبب.‏

سابعا : من يخالط الشعب التركي يجد أن لديه تقديرا واحتراما ‏لرئيس البلاد خصوصا إذا كان ذا شخصية كاريزمية ويعمل على ‏بناء بلده وتطويره ويده نظيفة من المال العام ، وأصبح معلوما ‏لدى غالبية الشعب التركي أن رؤساء سابقين استُهدفوا لهذا ‏السبب ويحدثك الأتراك اليوم لماذا أُعدِم عدنان مندريس ويعددون ‏لك إنجازاته وما قدمه لتركيا وأثره في تأسيس البنى التحتية ‏للبلاد ، وفي الانتخابات الأخيرة رُفعت في الساحات العامة لافتة ‏فيها ثلاثة صور الأولى لمندريس وكتب عليها أُعدِم ، وبجنبها ‏صورة توركوت أوزال وكتب عليها سُمّم ، والثالثة لأوردوغان ‏وكتب عليها لن نفرط فيه ، وهي إشارة واضحة أن هناك ‏استهدافا للرئيس أردوغان بسبب ما قدم لتركيا من منجزات على ‏المستويات كافة وأن الشعب لن يفرط فيه هذه المرة كما فعل في ‏المرات السابقة مع رؤساء سابقين ، وقد أثبتت هبة الشعب ‏التركي يوم 15 تموز صحة هذا التنبؤ وصدق وعد الشعب ‏وحجم التأييد الشعبي لأردوغان الذي لبى شعبه دعوته من هاتفه ‏الجوال فور سماعها ولو أنه تردد أو تلكأ أو أخر خروجه ‏للصباح لكان مسار الانقلاب غير ما شهده العالم ولما تحدثنا ‏اليوم عن ملحمة الشعب التركي.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,052,246

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"