مارس الغرب الاستعماري في القرن الماضي، ولا يزال، كل أنماط الغزو على الأمة العربية وأقطارها، الغزو العسكري والغزو السياسي والغزو الاقتصادي، إلا أنه لم يفلح في تحقيق أهدافه الظاهرة والخفية. ولذلك وجه همه على نمط آخر من الغزو - هو الغزو الثقافي - في محو هوية الفرد العربي في انتمائه للعروبة تأريخا وللإسلام عقيدة ودينا.
ولقد نبه الكثير من المفكرين والحكماء العرب المسلمين في القرن الماضي إلى هذا الخطر - الكارثة - وكان في مقدمتهم العالم الجليل عبدالحميد بن باديس (1889-1940) باعث النهضة العربية الإسلامية في الجزائر، بقوله (أنا أنبه الأقوياء الطغاة من الحكام المستعمرين بأن همهم يجب أن لا يتوجه الى محو الهوية العربية الإسلامية بل إلى محو الأمية، والتعليم بدل التجهيل).
وهكذا أراد المستعمرون الفرنسيون محو الثقافة الإسلامية في الجزائر و إضعاف اللغة العربية و نسيان التراث العربي الإسلامي. وكان جواب المجاهدين لابن باديس "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" و "نموت أعزاء شرفاء ولا نعيش أذلاء جبناء".
لقد ظهر واضحا جليا تداعيات مثل هذا الغزو الثقافي في محو الهوية الوطنية والشعور القومي في البلاد العربية في أوائل هذا القرن الذي وصفوه زورا وبهتانا بالربيع العربي، إنه الخراب العربي ليس إلا!
لقد تخلت أمريكا عن العراق بعد سنوات من الاحتلال الغاشم وسلمت شؤون إدارة حكمه إلى إيران مكافأة لها على ما قدمته من تسهيلات ومساعدات أثناء غزو العراق.
نعم قدمت بذلك أميركا العراق على طبق من ذهب لإيران، وكان ثمن ذلك تنفيذ مشروع بايدين في تقسيم العراق وتمزيقه - أرضا وشعبا - وتفكيك المنطقة العربية.
وهكذا مكنت أميركا إيران، عدوة العرب وخاصة العراق، حاضرا وتأريخا، بالسيطرة الكاملة وتسيير السياسة الداخلية والخارجية للعراق والإشراف على القوات المسلحة وخلق الحشد الشعبي والعديد من الميليشيات المسلحة الطائفية والمرتبطة بولاية الفقيه في طهران.
وهكذا توَّجت ايران أعمالها المخزية بأن أوحت إلى الحكومة العراقية و رئيسها أنذاك المالكي بالانسحاب من المحافظات السنية وتسليمها إلى داعش الإرهابي. كما أنها أوحت الى الحشد الشعبي وميليشياته المسلحة ضرورة المشاركة في تحرير المناطق والمدن التي تحكمها داعش مما جعل أهالي هذه المناطق يقعون في الفخ، بين نيران داعش ونيران المليشيات الطائفية .
إن مشاركة الحشد الشعبي وميليشياته للتحرير، لم تكن كذلك بل للتخريب وتصفية الفارين من أرهاب داعش.
لقد اتبعت إيران واستخدمت عن طريق المليشيات أساليب همجية ووسائل وحشية متنوعة الأشكال والصور في السعي لمحو الهوية الوطنية العربية للشعب العراقي. ولنذكر منها على سبيل المثال:
*القتل والتصفية على الهوية والاسم الشخصي والعائلي.
*محو الذاكرة الجماعية، ذاكرة الأمة وتراثها بتغيير مناهج التعليم- محتويات وأساليب.
* حرب الإبادة والمقابر الجماعية.
*التغيير الديموغرافي ومعالم المدن وشوارعها وأسمائها.
*التهجير العمد وتشريد السكان ومنع المواطنين من العودة الى مناطقهم ومساكنهم.
*الاستحواذ على الأملاك والدور العامة والخاصة.
* هدم المساجد ودور العبادة ونهب المؤلفات والمخطوطات من دار الكتب العامرة ومكتبات الجامعات والمجمع العلمي. وأخيرا وليس آخرا رفع وهدم النصب التذكارية.
وهكذا أصبح العراق مستعمرة لإيران بامتياز.
ألم تحقق ايران عن طريق الحكومات العراقية المتعاقبة أهداف الغرب و إسرائيل بفقدان المجتمع العراقي وحدته وتماسكه الاجتماعي وقيمه العربية الأصيلة ومثله الأخلاقية العالية؟
ألم تحقق إيران أهداف الغرب و(إسرائيل) بسلب الفرد العراقي هويته الوطنية و انتماءاته القومية - عروبة وإسلام، عقيدة و دينا.
ألم يقل كيسنجر لبيغن (إنني أسلمك أمة نائمة، أمة تنام ولكن مشكلتها أنها لا تموت، استثمر ما استطعت نومها، فأن أستيقظت أعادت ما أخذ منها بقرون).
ألم يقل المفكر الأمريكي بيرغر في كتابه "العالم العربي المعاصر" إن (الخوف من العالم العربي ليس ناتجا من وجود البترول لديهم بغزارة بل بسبب الإسلام. فقد ثبت تأريخيا قوة العرب تتصاحب مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره).
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه المقدمة، من يجرؤ اليوم في العراق والوطن العربي برفع شعار كشعار المجاهد الكبير عبد الحميد بن باديس و يقول: العراق مسلم وإلى العروبة ينتسب، نموت أعزاء شرفاء و لا نعيش أذلاء جبناء؟
عش عزيزاً أو مت وأنت كريمُ بين طعنِ القنا وخفقِ البنُودِ
من يجرؤ- فردا أم جماعة – رفع شعار المقاومة الشعبية- حي على الجهاد – كما رفعه ابن باديس؟
هل من خيار للخلاص والنجاة من هذا الوضع الكارثي والمأساوي الذي تعيشه أمتنا العربية- ولا سيما العراق- إلا الاعتماد على النفس وتحشيد القوى الشعبية العربية؟
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد و حق الفدا
أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبــــــوة والسؤددا
فالشرف العربي الرفيع لا يسلم ويتخلص من الظلم والبغي والعدوان حتى تراق على جوانبه الدم. فهل من مزيد من إراقة الدماء وتقديم التضحيات بالنفس والنفيس لأمة عربية واحدة ذات رسالة حضارية خالدة ؟ تلك الأمة التي قال عنها ربنا تعالى:{وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}(المؤمنون 52).
روي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أنه قال (إنها أمة لن تموت إلا أنها تمرض وإنها لا تنام إلا أنها تغفو).