هل كان #سنة_العراق مغفلين؟!

نزار السامرائي

منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 تولى قيادتها رجال من السنة بصفة عامة، لكن هذا لا يعني أنهم اختاروا ذلك وليس حالة عامة، إذ كان هناك شيعة تبوأوا مواقع عليا في الدولة منها رئيس وزراء ووزراء، وفقا لما كان متوفرا من قدرات وكفاءات، حتى لو كانت غير مستوفية لشروط إشغال المناصب العليا في دولة يراد لها أن تتطور في عالم يحقق قفزات اقتصادية واجتماعية، بل هو أمر فرضته الوقائع على الأرض، لأن الشيعة لم يمتلكوا مؤهلاً تعليمياً لزجّهم في الإدارتين السياسية والإدارية.

 

من المعروف أن الضباط العراقيين في الجيش العثماني وهم من السنة أو أغلبهم كذلك هم الذين قادوا الثورة العربية أو كانوا من أعمدتها بقيادة الشريف حسين شريف مكة المكرمة، فأصبح ابنه فيصل ملكا على العراق وجاء بأولئك الضباط ليكونوا بناة الدولة العراقية الحديثة، فمنهم نوري السعيد وطه الهاشمي وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وجميل المدفعي وهم بناة المؤسسة العسكرية العراقية، وكان لافتا أن الضباط السنة هم وحدهم إلا في استثناءات نادرة كانوا هم الذين قادوا أو شاركوا في الثورات والمؤامرات وفي التصدي للإنكليز في حركات "مايس 1941" التي يطلق عليها العراقيون أسم "دكة رشيد عالي الكيلاني"، ودفع ثمنها العقداء الأربعة، وربما كانت واقعة إعدامهم الحلقة الأولى في مسلسل الدم الذي لم يتوقف أبدا، وحتى تنظيم "الضباط الأحرار، الذي فجر "ثورة" 14 تموز 1958 كان في معظمه من الضباط السنة، مما يطرح تفسيرا واحدا وهو أن الشيعة مترددون ومقتنصو فرص، يستثمرون الفوز الذي يجازف فيه السنة في الإنقلابات والإنقلابات المضادة على نظم حكم توصف بأنها سنية، أي أن الشيعة ينتظرون نضج الثمرة وسقوطها فيباشرون التهامها من دون تضحيات أو مجازفة فهم موالون على طول الخط ومنتفعون من نظام الحكم ومن الذي يليه حتى إذا كانا متناقضين ومتصادمين.  

ولم يكن تولي رجالاً من السنة الحكم في العراق الحديث، قرارا سنيّا جائرا بهدف إقصاء الشيعة عن حقهم بقدر ما هو انعكاس لواقع التخلف الذي فرضته "المرجعيات الدينية" ووكلاؤها المنتشرون في المدن والقرى بهدف جمع "الأموال الشرعية لمراجع النجف، هذه المرجعية التي كانت تحرص على الدوام على إبقاء حالة الجهل في الأوساط الشيعية عموما وما ينجم عنها من تخلف اجتماعي يتيح الفرصة لقيادتهم بيسر وسهولة وتمرير الأفكار التي تؤمّن لتك المرجعية السيطرة الكاملة على سلوك الأفراد والجماعات والإبقاء على علاقات الإنتاج وخاصة في القطاع الزراعي في حدود سيطرة الملاّك والإقطاعيين وشيوخ العشائر الذين يمتلكون سلطة مطلقة على الفلاحين وكأنهم جزء من وسائل الإنتاج الأخرى كالمحاريث والمكائن والمعدات الزراعية والحيوانات، كل ذلك كان يتواصل أمام سمع ونظر مرجعية النجف ودعمها وبتوجيه من إيران على الرغم من وجود تنافس في ذلك الوقت بين حوزة النجف وحوزة قم، لأنها كانت ترى في ذلك فرصتها للإبقاء على هيمنتها على الشارع الشيعي من خلال سلطة صمامات أمان اجتماعية مُنحت ثقة المراجع ومسيطر عليها بالفتوى لأنها هي نفسها تعاني من الأمية بسبب اعتبار المدرسة بيئة لفتنة تهدد سيطرة المرجعية وأدواتها.

ولكن اتنشار الحركات السياسية اليسارية في جنوب العراق وكذلك تطور وسائط الاتصال والإعلام وخاصة الراديو وفتح مقار لدوائر الدولة ومراكز الشرطة وفتح مزيد من المدارس وإقرار قانون الخدمة العسكرية الإلزامية كل ذلك أتاح فرصة للأوساط الشعبية في بيئة الجنوب الأكثر تخلفا في العراق، أن تطّلع على ما يحصل في العالم من تغيرات متسارعة، فانضّم كثير من الطلبة والخريجين إلى صفوف الأحزاب، وخاصة الحزب الشيوعي الذي وجد له حاضنة تقبل التأويل اللفظي للإسم، فكلمة شيوعي قريبة جدا من كلمة شيعي، فأحسنت قيادات الحزب الشيوعي التي كانت في معظمها من اليهود والمسيحيين والإيرانيين هذا الخلط فانضم عدد كبير من الشيعة إلى صفوف الحزب الشيوعي تأثراً بشخصية معلم ما أو هروبا من ظلم الإقطاع وجوره، كما أن حزب البعث وجد في الطلبة الشيعة الذين كانوا يتلقون دراستهم الجامعية في سوريا فرصة لتشر أفكاره وإقامة ركيزته التنظيمية.

وتدريجياً مع خطة الإعمار التي اعتمدها العراق في عهده الملكي وتواصلت بين مد وجزر في عهده الجمهوري حتى انطلقت بعد ثورة 17 تموز 1968 أقوى خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي لم يجد لها المتخصصون أدق من مصطلح "التنمية الانفجارية"، ازدادت نسبة المتعلمين الشيعة ومن حملة مختلف الشهادات العليا، أخذوا دورهم في الدولة من دون أن ينعكس ذلك على قضية الولاء للمرجعية التي كانت ترفع من سقف خطابها الطائفي كي لا تسمح بانفلات الشيعة من فلكها، ولهذا كنا نراها تؤجج خطاب الكراهية بين الشيعة والسنة من خلال تكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين في جهد مستميت لجر بعض السنة المتطرفين إلى خطاب مضاد وبنفس لهجة الشتائم والتكفير واللعن.

ولكن الشيعة وهم يشغلون أعلى المراكز الحكومية لم يستطيعوا التحرر من عقد التهميش والمظلومية التي تنفخ المرجعيات الشيعية فيها نار الاستمرار، ويلاحظ المراقبون أن مواسم الأحزان لم تقتصر على عاشوراء الحسين رضي الله عنه، أو زيارة الأربعين بل أخذت طابعا متزايدا من حيث العدد فنقّب مراجع الشيعة في كتبهم الصفراء وحيثما وجدوا مناسبة حزينة بعثوا فيها الحياة فصارت مواسم البكاء بعدد الأئمة الاثني عشر وتحاكي الرغبة لدى البعض قي الحصول على عدد أعلى من العطلات غير الرسمية، حتى احتل العراق المرتبة الأولى في عدد أيام العطلة على مدار السنة، مع كل ما يعنيه ذلك من تعطيل لمصالح الناس وتجميد للنشاط الاقتصادي، ويبدو أن هذا هو ما تسعى إليه المرجعيات الشيعية المنصّبة بأمرها أو مباركة منها، ويتساءل المرء لماذا لا توجد للشيعة مناسبة مفرحة؟ هل خُلقوا للبكاء فقط؟ فيأتي الجواب سريعا، أن المناسبات الحزينة فيها من التعبئة وإثارة أجواء الكراهية والإنقسام أكثر مما تفعله المناسبات السعيدة، أما من حيث الشكل فقد اتخذ إحياء هذه المناسبات البكائية طابعا عدوانيا استفزازيا وتكفيريا من خلال الهتافات التي ترافقها واللافتات التي تكفر السنة من خلال الإساءة إلى رموز المسلمين لا لسبب مفهوم إلا أنهم كانوا قادة الفتوحات الإسلامية التي كان من أبرز نتائجها تقويض أركان إمبراطورية فارس الساسانية وكأنهم يثأرون لأجدادهم.

لقد كان لافتا أن مفهوم "التكفير" هو الشعار المحبب لرجال الدين الشيعة، لأنهم اعتمدوا مبدأ عسكريا وهو "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، ولا أحد يعرف من هو الذي كفّرهم فيريدون تحميل آخرين مسؤولية ذلك  وهل يجوز في الإسلام الذي ثبّت مبدأ دينيا وأخلاقيا وقانونيا ساميا "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وبهذا فقد صار التمسك بمصطلح التكفير واعتماده كمعيار للتعامل مع السنة أخطر أشكال التكفير.

لقد ظل الشيعة أو معظمهم يتكتمون على مشاعرهم وشعاراتهم بشأن تكفير صحابة رسول الله وأزواجه حتى احتلال العراق عام 2003، فانطلق ماردهم "من قمقمه وكسر الزجاجة" في بيانات وخطب بلهاء من مراجعهم يشعر المراقب بأنها تشعر بالحرج من إعطاء رأيها الحقيقي في هذه القضية، كما أن المرجعيات الشيعية كانت تتعامل بأعلى درجات التقية عندما يتعلق الأمر بمعتقدات السنة، وهي تحمل بين ضلوعها يقينا متطابقا مع قناعات إسماعيل الصفوي بفرض التشيع على بلاد فارس، ومع ذلك وعلى الرغم من مرور عدة قرون ما زال ذلك المشروع متعثرا، بل هناك عرب يتحولون عن التشيع، وهناك بلوش وأكراد يواجهون نظام الحكم الإيراني الطائفي بضراوة، لهذا فقد رأت المرجعية في توجه الشيعة نحو التجارة وقطاع الأعمال خير وسيلة لتمكينها "أي المرجعية" في جوانب الإنفاق على الوجوه التي تريدها، لأنها تعي جيدا أن انصراف الشيعة نحو العمل الحكومي لا يوفر لهم دخلا كبيرا تستطيع أخذ خُمُسه وزكاته، وإضافة إلى ما يتبرع به أثرياء الشيعة للمرجعية وبرامجها السياسية و"الثقافية"، أقامت دولة داخل الدولة كانت تعمل بعيدا عن أنظار السلطة، ولهذا سادت مقولة لا تخلو من صحة بأن "السلطة بيد السنة وقطاع المال والأعمال بيد الشيعة"، فجندت ميزانياتها الهائلة في خدمة مشروعها السياسي بإسقاط نظم الحكم الوطنية بتواطؤ مع قوى دولية كبرى مستغلة ظروفا محلية وإقليمية ودولية ساعدت على أن تكون رأس السهم في ما تعرض له العراق من تآمر وخيانات أدت إلى احتلاله، ما حصل في العراق ما زال يحصل مستنسخا في الكويت والإمارات العربية والمنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية.

 لقد سقطت البراقع والأقنعة عن الشيعة بعد الاحتلال الأمريكي تباعا وطفا على السطح كل ما كانوا يستنبطونه من قناعات وعقائد، ويبدو أنهم حصلوا على ثمن تواطئهم مع الولايات المتحدة عبر تواطؤ "جمهورية إيران الإسلامية، كما قال زلماي خليل زاد.

كانت الدفعة الأمريكية الأولى من تسديد الثمن المستحق عليها للشيعة في تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي والذي تألف من 25 عضوا حصد الشيعة لوحدهم منه 13 مقعدا، كناية عن الاعتراف لهم بأنهم لوحدهم يشكلون أكثر من نصف سكان العراق بمن فيهم السنة العرب والسنة الأكراد والسنة التركمان، والمسيحيون وسائر المكونات الأخرى من دون الاستناد على وثيقة واحدة صحيحة ومعتمدة من قبل العراقيين أنفسهم أو من جانب الأمم المتحدة.

ومن فورهم باشر الشيعة بإحكام السيطرة على المؤسسات العسكرية والأمنية الجديدة التي تم تشكيلها على عجل من دون مراعاة لشروط الضبط العسكري ومهنية القوات المسلحة، بعد أن حل بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق الجيش العراقي الوطني، ثم أصدر قرارا متمما له بدمج الميليشيات الشيعية في الجيش الجديد والذي أخذ اسم الحرس الوطني، هذه تناسلت على نحو متسارع فغطّت الشارع ومارست إرهابا غير مسبوق لاسيما بعد تفجير قبة سامراء الذهبية في "22" شباط/ فبراير 2006، وخاصة أن فتوى علي سيستاني بعد التفجير والتي تدعو "لضبط النفس" جاءت ملغومة وتحريضية فقد خلت من طابع الإلزام الذي تتصف به فتاوى مراجع الشيعة الكبار، فكيف إذا صدرت هذه الفتوى عن "المرجع الأعلى" لشيعة العالم، فقد ورد فيها نص يدعو "الحكومة إلى النهوض بواجبها في حماية المراقد وإلا فإن المؤمنين هم الذين سيتولون ذلك"، أي أن سيستاني أعطى إشارة للغوغاء بتولى مسؤولية حماية المراقد الدينية، وهذه هي الإشارة التي أطلقت كل الأعمال الانتقامية التي نفذها أصحاب الملابس السوداء في مناطق السنة من قتل وحرق للأحياء وإحراق للممتلكات والمساجد.

مع الوقت كان سنة العراق يفقدون دورهم في الدولة والمجتمع، بمقابل سيطرة الشيعة على السلطة والمال "إذا اجتمعا لفريق يستطيع فرض هيمنته على بلد بكامله"، فجردوا السنة من كل حق مشروع لهم وحوَّلوا ممثليهم في العملية السياسية إلى شهود زور على تشريعات توشك أن تأتي على كل ما بقي عندهم من رصيد سياسي ومالي واجتماعي، بل سخّروا بعض سنة المالكي في مجلس النواب وحولوهم  إلى أبواق رخيصة لطرح معادلة سياسية اجتماعية لا وجود لها حتى في أكثر الدول تخلفا، فقد قال النائب "عبدالعظيم العجمان" الذي تم اغتياله في العاشر من كانون الثاني/ ديسمبر 2016، نظرية "من لا يستطيع من السنة التعايش مع الشيعة عليه مغادرة العراق" هذه الفكرة لم يتجرأ حتى قيس الخزعلي أو هادي العامري أو غلاة الشيعة على طرحها بهذه الصورة الاستفزازية، مع أنهم يؤمنون بها ويحرضون عليها، ولو كانت صحيحة لكان على شيعة العراق مغادرته قبل الاحتلال وكذلك شيعة الخليج العربي والجزيرة العربية، ويبدو أن هذه الفكرة الموغلة في التخلف والسوداوية لم تكن من بنات أفكار هذا النائب البائس الذي يحمل قدراً غير عادي من تقية الحزب الإسلامي وتلونه وانتهازيته، بل تم إملاؤها عليه من طرف أو أكثر من التحالف الشيعي الحاكم، هذه الصور وغيرها مما يحصل في عراق ما بعد الاحتلالين، هو الذي عزَّز من دوافع بروز حركات متطرفة  للدفاع عن حقوق السنة المصادرة والمغتصبة.

بعد تجربة حكم الشيعة للعراق باسم المذهب رسميا، بات من الطبيعي أن نسمع أو نقرأ مراجعات مريرة من قبل السنة لتجربتهم في الحكم منذ 1921 وحتى 2003، هذا إذا افترضنا أنهم حكموا العراق حكما مذهبيا، كثير من السياسيين السنة صاروا يعتقدون أن شعار "إخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه" ما هو إلا جرعة مخدرة تهدف إلى القضاء عليهم عمليا وإزاحتهم من الخارطة السكانية، بعد أن تم القضاء على فرصهم بالعيش الكريم في وطن بنوه بجهدهم ومثابرتهم وإخلاصهم لتربته ودفاعهم عن سيادته واستقلاله وصيانة ثرواته.

فهل كان سنة العراق مغفلين عندما تعاملوا مع الشعب العراقي ككتلة واحدة وعلى على أساس "العراقيون متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات"؟ وهل كان عليهم أن يحكموا العراق بعقلية مذهبية تلغى الآخر ولو بالقوة وتفرض مذهبا معينا ومن لا يعجبه ذلك عليه أن يرحل؟

هناك من يعتقد جازما منهم، بمن فيهم العلمانيون، بأنهم كانوا كذلك وبامتياز!

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,624,892

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"