ما يزال العراقيون حتى الساعة يدفعون ضريبة الاحتلال الذي لم يأت لهم بخير، ولا يمكن أن يأتي بنفع لأي بلد من بلدان المعمورة لأن الاحتلال يُدمر ولا يبني، يُخرب ولا يعمر، يُفسد ولا يصلح.
خراب حال العراقيين بعد الاحتلال دخل في كل المجالات، ومنها الإدارة والصحة والغذاء والدواء وغيرها، وكأن المؤامرة حيكت بعناية فائقة لتشمل الوطن والمواطن معاً.
وفي تشرين الثاني/ أكتوبر 2004، عقد المنتدى العالمي الثاني للمسؤولين عن سلامة الأغذية المشترك بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية، والمتعلق بتعزيز الإدارات الرسمية لمراقبة سلامة الغذاء في العراق، وأكدوا على أن " الغذاء حق من حقوق الإنسان بموجب الأعراف السماوية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والمؤتمرات الدولية الخاصة بالغذاء والتغذية وآخرها مؤتمر روما عام 1996 والتي أقرت بأن الغذاء الصحي والسليم حق من حقوق الإنسان".
والنظام الإداري الحالي لبرنامج سلامة الغذاء في العراق هو "نظام متعدد الهيئات حيث تساهم الوزارات والدوائر التالية فيه ( وزارة الصحة- وزارة التجارة- وزارة الزراعة- وزارة التخطيط- الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية- وزارة الصناعة- وزارة البيئة (مركز الوقاية من الإشعاع)- وزارة العلوم والتكنولوجيا- وزارة التعليم العال، مختبرات مصانع ومعامل القطاع الخاص وجمعيات حماية المستهلك)".
وعلى الرغم من هذه المؤسسات الشاملة والمتنوعة فان غذاء العراقيين ما يزال عرضة لعصابات الفساد المالي الذين يتاجرون بالمواد التالفة والمنتهية الصلاحية، ويحاولون زجها في مفردات البطاقة التموينية.
وقبل عدة أشهر أثيرت في العراق ضجة كبيرة في كافة وسائل الإعلام الرسمية والخاصة ومواقع التواصل الاجتماعي حول " دخول شحنة أرز هندية المنشأ تالفة وبآلاف الأطنان عبر موانئ البصرة إلى آليات التعاقد المعتمدة بين وزارة التجارة والشركات المجهزة، وأن الشركة المورّدة استوفت 90% من قيمة الصفقة قبل وصول البضاعة إلى العراق".
وعلى الفور حاولت وزارة التجارة إخلاء مسؤوليتها والتغطية على الكارثة، وأعلن وزير التجارة وكالة سلمان الجميلي، يوم (15 تشرين الأول 2016)، انتهاء التحقيقات بشأن صفقة الرز الهندي، مؤكداً "عدم وجود جهة معتبرة أو مختصة أثبتت أن الرز فاسد حتى الآن، وأن الشركة المجهزة واحدة من أكبر شركات الرز العالمية ولها عشرات العقود مع الوزارة"، فيما كشفت الموانئ العراقية من طرفها أن "وزارة التجارة قد أبلغتها مسبقاً بصلاحية الرز الهندي وضرورة تفريغها بأسرع وقت"!
وبعد عدة شهور من التفاعل الوطني مع هذه القضية التي تمس حياة المواطن العراقي أعلنت محكمة التحقيق المتخصصة بقضايا النزاهة في بغداد منعها" توزيع جزء من شحنة الرز الهندي بعد ثبوت عدم صلاحيته للاستهلاك"، وأصدرت أمراً بالقبض على المسؤول عن تجهيزها، وأوقفت " صرف مبلغ خطاب ضمان تتجاوز قيمته مليون دولار، بعد أن أثبتت التحقيقات أن جزءاً من الشحنة [626 طناً] غير صالح للاستهلاك".
فأين تحقيقات وزير التجارة، وكيف يمكن تفهم قول دائرة الموانئ العراقية أن " وزارة التجارة قد أبلغتها بضرورة تفريغها بأسرع وقت"!
جريمة الرز الهندي التي سربت منها عشرات الأطنان في عموم البلاد تجعلنا نتوقف عند حقيقة مخيفة وهي كم هي كميات المواد الغذائية التي دخلت للمائدة العراقية وهي غير صالحة للاستخدام البشري عبر بوابة البطاقة التموينية؟
هذه الجرائم الإدارية تجعلنا نميل لفرضية أن انتشار الأمراض السرطانية في العراق لم يكن فقط نتيجة استخدام الاحتلال الأمريكي لأسلحة محرمة، وإنما أيضاً بفعل استيراد مواد غذائية منتهية الصلاحية في ظل استمرار حالة الفوضى الإدارية والفساد الإداري.
المتلاعبون بقوت المواطن هم إرهابيون، وهذا الإرهاب لا يقل ضرراً عن إرهاب التفجيرات والمليشيات لأن المتلاعبين بقوت المواطن يصل إرهابهم لجميع المواطنين عبر مواد غير صالحة للاستهلاك البشري ربما تقود لأمراض فتاكة تفتك بصحة ملايين الأبرياء الذي لا يجدون إلا البطاقة التموينية منفذاً ومنقذاً لهم من الجوع وتبعات البطالة.
لا يمكن أن تُبنى الثقة بين المواطن والدولة إلا بجهاز رقابي قادر على حماية المواطن في كل ما يتعلق بحياته وكرامته ودوائه وقوته.