لا يمكن لمبغض أو محب أن ينكر الدور البارز الذي تلعبه غالبية دول الخليج العربي في الملفات الإقليمية والعالمية، وبالتالي تبقى نظرة تلك الدول ومواقفها ضرورية في تحديد وتشخيص القضايا الشائكة في المنطقة ومنها القضية العراقية المركبة.
العراق يعاني منذ عدة سنوات من إشكالية خطيرة تتمثل بغياب سلطة تمثل جميع المكونات، وفقدان المنظومة الأمنية الرسمية القادرة على نشر الأمن بحيادية في البلاد، وكذلك استمرار تغوّل المنظومات الفرعية غير الرسمية، وبالذات المليشيات المنتشرة بشكل غير قانوني.
ووفقاً لتصريح حيدر العبادي رئيس حكومة بغداد، والقائد العام للقوات المسلحة، في نهاية أيار/ مايو الماضي، هنالك في بغداد فقط وجود " أكثر من 100 مليشيا يمتلك عناصرها هويات ومقرّات، وأن الحكومة ستعمل على إنهاء وجودها".
حكومة العبادي لم تسع لمكافحة المليشيات كما وعدت، بل- وعلى خلاف ذلك تماماً- وبعد خمسة أشهر مرّرت – باعتبارها تمثل التحالف الوطني الشيعي الحاكم- قراراً برلمانياً بجعل الحشد الشعبي هيئة عسكرية تابعة لمكتب رئيس الحكومة، وتلك خطوة غريبة ومخالفة للدستور، وتؤكد العمق الحقيقي للمليشيات في المشهد العراقي السياسي والعسكري.
في ظل هذه الصورة المُعْتِمة في بلاد الرافدين جاءت قراءة بعض دول الخليج ومنها المملكة السعودية، التي كشفت عنها التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية عادل الجبير قبل عدة أيام، والتي حذر فيها من استخدام " ميلشيا طائفية انتماؤها لإيران، سببت مشاكل وارتكبت جرائم في أماكن مختلفة في العراق، وإذا ما دخلت الموصل قد تحدث كوارث، وإذا أراد أن يواجه العراق إرهاب داعش، وأن يتفادى سفك الدماء والطائفية بين أبنائه من الأفضل أن يستخدم جيشه الوطني وعناصر غير محسوبة على إيران وغير معروفة بالطائفية والتشدد، والمشكلة في العراق هي الطائفية، ويجب إشراك كل مكونات هذا البلد في اتخاذ القرار ليشعروا أن الحكومة هناك تمثلهم، وهذا مفقود للأسف".
القراءة السعودية جاءت من نظرة دقيقة للمشهد العراقي، تُبين أن المملكة تلمس وبدقة الخطر المتوقع من المليشيات على مستقبل المنطقة باعتبار أن غالبيتها تأتمر بأوامر إيرانية، ويمكن أن تنفذ الأجندات الإيرانية في منطقة الخليج العربي عبر العراق، أو بطرق أخرى تتمثل بمحاولة إثارة المشاكل عبر بوابة الطائفية في دول الخليج المستقرة أمنياً وسياسياً.
المليشيات "العراقية" لم تخف تهديداتها للسعودية، وفي بداية كانون الثاني/ نوفمبر 2015 هدد أبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد المملكة السعودية. وفي شباط/ فبراير 2016، نشرت ميليشيات الحشد الشعبي، مقطعاً مسجلاً للأمين العام لقوات "أبي الفضل العباس" أوس الخفاجي، يرد فيه على تصريحات وزير الخارجية الإماراتية عبدالله بن زايد، ومهدداً "بدخول الخليج بعد القضاء على مرتزقة الإمارات في العراق وسوريا" على حد قوله.
وفي بداية العام الحالي نفذت مليشيات الحشد الشعبي مناورات عسكرية تدربت بها على إطلاق قذائف هاون وصواريخ روسية متوسطة وبعيدة المدى، في مدينة النخيب العراقية القريبة من مدينة عرعر شمال السعودية.
تجربة المليشيات ينبغي محوها من الساحة العراقية ليس فقط لأن عناصرها من أنصار الحكومة، ولكن لثبوت جرائم ارتكبتها تلك المليشيات ضد المدنيين العزل، وبعضها يصل لدرجة جرائم حرب في مدن ديالى والأنبار وصلاح الدين ومناطق حزام بغداد، وفي مدينة الموصل خلال المعارك الجارية الآن، كما ذكرت ذلك بعض المنظمات الإنسانية المحايدة.
محاولات بعض الأطراف السياسية الاتكاء على قضية مكافحة "داعش" لتنفيذ أجندات خطيرة وعمليات انتقام طائفية وعرقية وإستراتيجية لا يمكن أن تقود إلى بناء الدولة العراقية. والسبيل الصحيح لبناء الدولة يكمن بالارتكاز على مفاهيم أصيلة ومتفق عليها، ومنها الإنصاف والعدل والنظر للمواطنين وفقاً لمبدأ المواطنة، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى من اجل تنفيذ أجندات غير عراقية.
استمرار ظاهرة المليشيات في الشارع العراقي يؤكد غياب سياسة مأسسة الدولة بعد عام 2003، وبقاء هذا الحال ينذر بمخاطر كبرى ربما لا تتوقف تداعياتها عند الحدود العراقية.