من الاطلسي الى أيجه: تجاذبات ومصالح، وكوباني ضحية جديدة

جمانة نمّور

“الضربات الجوية وحدها لن تنقذ كوباني”. كلمات قالها المتحدث باسم البنتاغون قبل أيام، واثبتتها الغارات الجوية للتحالف الدولي. وفيما أجمع المحللون على ضرورة تدخل بري لحسم المعركة، تطرح تساؤلات حول وجود نوايا حقيقية للتدخل و”الانقاذ”.

رغم التركيز المستحدث عليها، فان المواجهات في كوباني ليست جديدة، هي مستمرة منذ عام تقريبا. ازدادت حدتها بعد الانتصارات التي حققتها “الدولة الاسلامية” في الموصل، ما أبقى على كوباني عائقا أمام تنقلاتها بين حلب والرقة شرقا في سوريا، والموصل شمالا في العراق. السيطرة على كوباني اذا، ستتيح لها حرية نقل العتاد وتجارة النفط ( المستفيدون من تجارة السوق السوداء هذه كثر). هدف لا يزعج على ما يبدو الاميركيين، الذين رسموا عبر تدخل عسكري كثيف، خطا أحمر لتقدم التنظيم في العراق، واعلنوا هدف القضاء عليه هناك، فيما اكتفوا بالاعلان عن تحجيمه في سوريا.

مسؤولون عسكريون أميركيون أعلنوها صراحة، فقد نُقل عنهم القول انهم “واعون للوضع الانساني الملّح في كوباني، ولكنهم لا يعتبرون مع ذلك أن المدينة استراتيجية بالنسبة اليهم”. ما يدفعنا الى التساؤل: ما الذي يجعل من المناطق الكردية خطا أحمر في العراق، ورماديا في سوريا؟

عوامل عديدة تتبادر الى الذهن. أبسطها طبعا أنابيب النفط مع ما مثلّته، وتمثله، من مصالح شُنت لأجلها حروب. كذلك تطل مكاتب الاستخبارات الاميركية المتواجدة في اربيل، لتشكل سببا رئيسا يدعو “العم سام” الى حمايتها. علما أن فكرة انشاء قاعدة جوية عسكرية أميركية هناك طرحت بقوة مؤخرا، ولاقت ترحيبا كرديا.

أضف الى ذلك حسابات التعاطي مع “العدو_الحليف” الايراني، الذي يشكل تنظيم “الدولة الاسلامية” خطرا عليه في العراق، ويتحول في سوريا شماعة ضرورية ليعلِّق عليها الاسد، حليف ايران، بقاءه.

لماذا يأخذ أوباما في الحسبان المصلحة الايرانية؟ طبعا ليس تحببا بها، بل لمقتضيات التفاوض حول الملف النووي، هو الراغب في تحقيق اختراق فيه خلال ولايته. اختراق من الواضح انه لن يحدث في المهلة المحددة نهاية الشهر المقبل، ما سيؤدي الى تمديد جديد للمفاوضات، تكون احدى حججه عدم التصادم مع ايران، في الوقت الذي تتم فيه مواجهة خطر مشترك هو “الدولة الاسلامية”.

العلاقة مع روسيا أيضا ليست بعيدة عن ذهن سيد البيت الابيض، وقراراته المتعلقة بموازين قوى الشرق الاوسط. منطقةٌ عاد الدب الروسي الى اللعب في ساحتها بقوة مع اندلاع الثورة السورية، وفراغ خلّفته سياسة الادارة الاميركية فيها تلك الفترة. فاوباما “الديمقراطي” وضع قفازات حريرية في تعاطيه مع خصوم الامس، وانسحب جزئيا في ما يشبه “الردّة” الى الداخل الاميركي. انسحاب ما زال مصرا عليه على ما يبدو، ما ينعكس على الطريقة التي يتعامل فيها مع التطورات على الارض، وكوباني إحداها

فعلى عكس بوش “المحارب”، يتصرف اوباما ك”طبيب جرّاح” على استعداد لاعمال المبضغ موضعيا فقط. ويتجلى ذلك في ابقاء الادارة الاميركية على مساحة من المرونة في تحديد استرايجية التعامل مع “الدولة الاسلامية”. المهم بالنسبة اليه تجنب سقوط دم اميركي في الخارج، وعدٌ قطعه في بداية حكمه ويبدو انه يصر على تركه إرثا في سجله، مهما كان الثمن. وهذه النقطة قد تشكل حجر زاوية في رفضه القاطع، حتى الساعة، إقامة منطقة عازلة شمالي سوريا.

المنطقة العازلة، فكرة طُرحت قبل عامين بهدف انساني على السطح، استراتيجي في العمق. انساني من ناحية العمل عبره على تأمين منطقة آمنة داخل سوريا، تستوعب النازحين من نير المعارك، وتشكل ممرا للمساعدات الانسانية. استراتيجي، لانه يتطلب اجتياحا لجزء من الأراضي السورية تنفذه جيوش أجنبية، في غياب قوة عسكرية سورية معارضة، يُعتمد عليها في تلك المهمة. وفي ظل غيابٍ آخر لمؤسسات مجتمع مدني تُسيّر شؤون الناس، قد يتحول الامر الى احتلال بكل معنى الكلمة. احتلال قد يتعرض بطبيعة الحال لهجمات تضع الأطراف المشاركة في عين عاصفة حرب أهلية، نعلم كيف بدأت، ونجهل كيف ومتى ستنتهي

من هنا يمكن ان نطل على الموقف التركي، و”اصطدامه” بالاستراتيجية الاميركية. اذ يختلف الطرفان منذ فترة على تحديد الاولويات في التعاطي مع الملف السوري.

ترغب تركيا في اسقاط الاسد وتعتبره العدو الاساسي، وتصر على حظر للطيران ومنطقة عازلة تؤدي في نهاية المطاف الى المواجهة والحسم، شرط ألا تغرق وحدها في رماله المتحركة. أما سقف الطموح الاميركي فإنه قد يقف حاليا، وكما هو معلن، عند قصم ظهر داعش في العراق والاكتفاء ب”تحجيمها” في سوريا، حتى لو أدى الأمر الى تقوية شوكة الأسد. فهل يفسد هذا الخلاف ود التنسيق بين الطرفين؟

زحمة مبعوثين أميركيين الى تركيا هذه الايام، والغاية محددة: دفعها الى مشاركة اوسع في حملة التحالف الدولي على “الدولة الاسلامية”، دون ان يصل الامر الى تأمين غطاء دولي لخطوات احادية الجانب تقوم بها.

وفي غمرة رأي عام عالمي يحمّلها مسؤولية مجزرة متوقعة في “كوباني” تطل عليها من الحدود، قد تجد تركيا نفسها مضطرة الى الاختيار قريبا بين جارين غير مرغوب بهما (حكم الاكراد، وحكم داعش).

واقع قد لا تملك أمامه من خيار سوى التعامل بآنية مع التطورات، بما يتيح لها، هي ايضا، كسب مزيد من الوقت. وقت قد تتم تمضيته في تدريب “المعارضة السورية المعتدلة” ضمن خطة اشار اليها وزير الدفاع الاميركي، على هدير طائرات حربية لم يتضح بعد ان كانت أبواب آنجرليك ستشّرع أمامها

وتبقى الارواح معلقة في كوباني بمصير قد لا يقل وحشية عما شهدته أماكن أخرى، سقط فيها ضحايا، والضمير!

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,617,170

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"