كانت الدنيا حلما جميلا في عيوننا وكانت احلامنا كبارا لا اكبر منها في الدنيا ولا أجل، شبابا غاضبين في مواضع الغضب وهادئين في مواضع الهدوء، وحلماء بحلم الشيوخ الذين يعلمون الناس الحكمة ويعملون بها، شبابا مكتهلين في شبابنا، نملأ الدنيا زهوا ومرحا وفرحا وكبرياء وأنفة وعزة وحمية، لا يكفينا في الدنيا ان نملكها بقطبيها واقاليمها جميعا، فإن ضاقت بنا ألحقناها بارض السواد..
ولا نرضى أن نقبض على الافلاك ونجني من السماء نجوما نصوغ منها قلائد نعلقها على جيد حبيباتنا او جيد الوطن الذي لا نعرف له حدا، فحدوده بسعة حدقات العيون وراحات الايدي المبسوطة السخية، ولا يمكن لأحد ان يقطع حدوده ومساحته مهما ملك من وسائط نقل، لأنه وطن كبير اولا وكبير ثانيا وكبير ثالثا وكبير اخيرا، والخريطة لا تجدي نفعا مع الذين يتصورون الاوطان ليست مساحة من الارض ولا كميات من التراب ولا مخافر حدودية.
وكنا نشأم اذا تبغددت الشام ونُتهِم اذا أشأمت تهامة، ونُنجِد اذا انجدت مصر، يمانيين اذا ايمنت اليمن، واطلسيين اذا فاض المحيط الاطلسي، ومتوسطين اذا تلاطمت امواج البحر المتوسط، وعربا اذا تدفق الخليج العربي، ولا حدود ولا قيود.
ولا نقتنع بالكتابة ان نسوّد الصفحات بيضا، او ان ننمق حروفا، ونستخدم اساليب البديع والبيان والتورية والجناس والطباق والكناية والمعاني والاستعارة، ونكتب الكلام الحلو الجميل المفيد.
نريد فلسفة اذا حضر الفلاسفة، وأدبا في مجالس الادباء، وعلما في اروقة العلماء، وفنا في بيوت الفنانين، وحقا وعدلا في دور العدالة، وجمالا للباحثين عن الجمال، وانشاء بديعا بين طلاب الكلام الممتع الجميل المفيد.
و
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملأه سفينا
وملأنا الوديان بعرق جباهنا، وملأنا الدنيا بأحلامنا، وملأنا الصفحات بكلماتنا، وملأنا صدورنا بحب الناس، وبنينا قبابا واعمدة وأواوين ودواوين واساطين وجنائن معلقة واسوارا بابلية وابراجا واسد بابل ومسلة حمورابي بأيدينا، التي لا اشدَّ منها ولا أقوى منها الا يد الله تعالى، التي هي معنا فوق أيدي المعتدين، وعقدنا بالدم عقد قراننا مع الوطن، وبيَّضنا وجوه المحبين، وسوَّدنا وجوه الاعداء والمبغضين، وكنا كبارا في كل شيء، ولم نقف يوما في صف الخفافيش التي تبحث عن عش تأوي اليه ولا ترى من الدنيا سواه، ولا تحسب مساحة ارض الله الواسعة الا هذا العش، ولا تنظر ابعد منه فهو وطنها الذي تحسبه الخفافيش اوسع من القصور واعلى من ناطحات السحاب واجمل من برج ايفل، بل نحن صقور ونسور وبزاة لا تحسب السماء بطولها وعرضها الا وطنا لها،
وكنا مع امرئ القيس اذ خاطب الذئب قائلا:
كلانا اذا مانال شيئا أفاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وكنا معه ايضا اذ قال:
ولو أنها نفس تموت جميعة
ولكنها نفس تساقط أنفسا
وكنا مع الشاعر العربي مضاض بن عمرو بن الحارث اذ قال: