حزب الله أمام تراجع تكتيكي لا استراتيجي والرهان على «لعبة الوقت»

لم يكن «حزب الله» القوة المتحكمة فعلاً بالقرار اللبناني والذراع العسكرية الأقوى بين الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، ليظن يوماً أنه سيخطئ في التنبؤ بحدود فعل وردات الفعل السياسية والأمنية والعسكرية للمملكة العربية السعودية، لكن هذا ما بدا أنه يحصل مع «السعودية الجديدة» في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وإبنه محمد ولي العهد، الرجل الذي يظهر يوماً بعد يوم أنه «رجل المفاجآت» للحلفاء والخصوم معاً. 


ورغم اشتداد المواجهة السعودية – الإيرانية، كان «حزب الله» أقرب إلى اليقين أنه قادر على إبقاء لبنان في قبضته الفعلية بغطاء العهد الحالي ورئيس الوزراء سعد الحريري، الزعيم السني الأول في لبنان، عبر ما عُرف بـ» التسوية الرئاسية». لم يكن واثقاً من أن «السعودية الجديدة» ستقلب الطاولة سياسياً، لكنها فعلت.

ومهما كانت الظروف التي رافقت استقالة الحريري، فإن النتيجة تكمن في ما قاله محمد بن سلمان أخيراً من «أن الحريري، المسلم السنّي، لن يستمر في تأمين غطاء سياسي لحكومة لبنانية تخضع في شكل أساسي لسيطرة ميليشيا حزب الله الشيعية اللبنانية التي هي تحت سيطرة طهران بصورة أساسية». 


الأقرب إلى اليقين لدى «حزب الله» اليوم، أن الخصم ليس من «العرب التنابل» وفق توصيف أمينه العام حسن نصرالله يوم انطلقت «عاصفة الحزم» في اليمن والتي كانت بداية المفاجآت الصادمة له وللراعي الإيراني الذي سبق واعتبر، عند سقوط صنعاء في يد الحوثيين، أنه بات يسيطر على رابع عاصمة عربية بعد بغداد ودمشق وبيروت. وألاهم أنه بات مدركاً أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وما عاد قادراً على التنبؤ واحتساب خطوات الخصم مسبقاً.


«السعودية الجديدة» في قراءة الكثير من المراقبين هي سعودية «مغامِرة، متسرعة، يافعة في خبراتها»، وهو وصف يصح مقارنة بـ»السعودية القديمة»، التي كان لها نهجها المختلف في مقاربة التحديات. وسيكون الحكم عليها رهن مسار التطورات في المستقبل ونتائحها.

لكن ما بات مؤكداً وحاسماً أن سياسة الرياض ماضية في التصعيد والمواجهة المباشرة ضد «حزب الله» الذي بقوته وخبراته أرادت إيران أن تكون اليمن حرب استنزاف للسعودية، ما دامت تشكل خاصرتها الرخوة.

ما لم يكن في حسبان الحزب أن اليمن سيكون «الذريعة» أو «المسوغ» لتوجيه ضربة عسكرية ضد مواقعه ومخازنه وتواجده المسلح ليس خارج لبنان فحسب بل داخله أيضاً، تشبه «عاصفة الحزم» في اليمن في أيامها الأولى. فـ»حزب الله» أضحى في قرار الجامعة العربية «تنظيما إرهابيا يرعى الإرهاب ويدعم الجماعات الإرهابية في الدول العربية ويمولها بالأسلحة المتطورة والصواريخ البالستية».

الإجماع الذي حصده القرار، آخذاً بالاعتبار أن التحفظ العراقي الخجول مفهومة ظروفه كما التحفظ اللبناني، يحمل رسائل واضحة للحزب سبقتها معلومات وصلته عن جدية المعطيات حول عمل عسكري محتوم بمظلة التحالف الدولي، يقع في خانة حق المملكة في الدفاع عن أمنها القومي ضد الإرهاب الذي يستهدفها ويستهدف أمن الخليج. 


تلك الحتمية أجبرت بدورها «حزب الله» التراجع خطوات إلى الوراء. صحيح أن الكثير من تفاصيل المفاوضات التي حصلت في الكواليس خلال وجود الحريري في الرياض عقب إعلان بيان استقالته، الطوعية أو الجبرية، لم تُكشف بعد.

ولم تكن تلك المفاوضات في عمقها تتعلق بالحريري فحسب بقدر ما كانت تتعلق بمطلبات التسوية التي قادتها فرنسا مع إيران ولعبت مصر دوراً موازياً للحؤول دون الضربة العسكرية المقررة ضد مواقع «حزب الله»، لما لها من آثار كارثية على استقرار لبنان، على أن تؤول التسوية إلى تحقيق الأهداف التي رسمتها الرياض، والمتعلقة أولاً بخروج «حزب الله» من اليمن ووقف دعمه بمختلف الأشكال للحوثيين – النسخة اليمنية عنه.


التحديات باتت كبيرة أمام «حزب الله»: فثمة إجراءات مشددة، أولاً تنتظره، مالياً بفعل العقوبات الأمريكية، بما يضيق الخناق المالي أكثرعلى بيئته التي ستستهدفها تداعيات العقوبات أكثر منه، إذ أن ميزانيته من إيران وما يحصل عليه من الأعمال غير المشروعة تصله بالعملة الصعبة ولا تمر عبر أي معاملات بنكية أو تحويلات مالية. وثمة تملل غير معلن ضمن بيئته الحاضنة، ثانياً، وخوف وقلق من الآتي في ظل الاقتناع أن قراراً كبيراً قد أتخذ إقليمياً ودولياً وواضح المعالم أمريكياً، بضرب الذراع العسكرية لـ«حزب الله» في بعدها الخارجي و«فائض قوتها» داخل لبنان، وذلك في إطار استراتيجية تحجيم نفوذ إيران في المنطقة.

وثمة اقتناع لديه، ثالثاً، أن التبدّل الذي طرأ سياسياً وعسكرياً على المشهد بفعل المعادلة السعودية الجديدة بات يفرض الكثير من الليونة في التعامل، سواء على مستوى «التعديل في المسلمات» التي يتمسك بها في اليمن، وما يرافقها من إعادة دراسة لواقعه في سوريا والعراق في مرحلة ما بعد «داعش»، أو على مستوى ما تتطلبه التسوية داخلياً من خطوات تنازلية لعدم انهيارها وللحفاظ على الاستقرار وتجنيب لبنان الفوضى.


هذا باختصار ما يحمله مفهوم «التريث» التي اتخذه الحريري في استقالته. إنها فترة السماح بضمانة فرنسية – مصرية التي فيها الكثير من احتضان للحزب، لإعادة ترتيب أوراقه في مرحلة التراجع إلى الوراء. وإذا كان تصريح قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، منذ أيام عن أن «نزع سلاح «حزب الله» غير قابل للتفاوض» يعني شيئاً، فهو يعني أن سقف التفاوض الذي جرى القبول به يتعلق بموقع الحزب العسكري إقليمياً وليس لبنانياً، لكنه كلام يُفهم في الإطار السياسي أيضاً أن سلاح الحزب الداخلي بات هو الآخر على المحك وسيُفتح ملفه عاجلاً أو آجلاً.


على أن العارفين بإيران و«حزب الله» يدركون أنهما يجيدان لعبة الحسابات وسياسة المد والجز، وأنهما متمرسان في لعبة الإحتواء وإن تطلب تنازلات قاسية، لكنه أحتواء تكتيكي يخدم المشروع الأساسي لطهران في المنطقة. ومن هنا، يبدو الحذر سيد الموقف لدى اللاعبين الرئيسيين في الإقليم من أن «حزب الله» سيناور ويتراجع مرحلياً ويقوم بخطوات تنفيذية لكنها لن تغيّر في مسار الخطة الاستراتيجية لمحوره.

وهو سيراهن على لعبة الوقت لينقض من جديد. هي لعبة يتقنها جيداً وتضع الخصوم أمام تحديات قطع الطريق عليها في المواجهة الإيرانية- السعودية التي باتت تأخذ أشكالاً مختلفة عما كان مألوفاً سابقاً.

المصدر

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :136,056,340

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"