قيس النوري
استهلال
استقراء حركة وتفاعلات الاحداث المفصلية في تاريخ العالم، تشير إلى ارتدادات مؤكدة تجاه مناطق الصراع والبؤر الساخنة، وساحات المواجهة المحتملة تبعا لأهمية المصالح والاطماع الدولية ذات الابعاد التوسعية وحساباتها في أطار تغير موازين القوى بعد كل متغير دولي عميق.
ما تطرحه هذه الورقة، ليس تفصيل لما يجب أن يكون عليه العمل العربي في مواجهة استهداف متشابك دوليا وإقليميا، وإنما المطروح تأشير مكامن الخطر الماثل وتشابك عناصره الإقليمية، لغرض تلمس المداخل المهمة في صياغة قاعدة عمل وتفاهم مبدئي لمجابهة خطر بات ينتقل بخطوات متسارعة من التخطيط الى التنفيذ، وليس أمام العرب وقواهم الحية أي مسوغ مهما كان لتأجيل معالجة تفاقم خطر داهم يزداد خطورة، يستهدف في نهاية الامر أسر العرب في أهم مفصل جغرافي- سياسي من وطنهم القومي.
الغوص في استذكار تاريخ دامي من صفحات وقائع كان أغلبها مصبوغ بسواد ودم، لا يجد مراجع تلك الصفحات صعوبة في اكتشاف عمق الترابط، العلني والخفي في الغالب، بين أدوات الاستهداف المعادي للامة، بين فواعله ومخططيه، وهم دائما ذلك الغرب الاستعماري، وبين الاستعانة والتوظيف الميداني من قوى تحادد الوطن القومي العربي، طالما سلكت ومارست أدوار وظيفية توافقية في مساراتها النهائية مع كل موجة استهداف طالت العرب كأمة.
الغرب الاستعماري، وقيادته العالمية، بريطانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ،كما هي قيادته الحالية، الولايات المتحدة الأميركية، سعى بكل السبل بالسيطرة والهيمنة على مقدرات الوطن العربي من أقصاه غربا حتى تخومه شرقا، لاعتبارات استراتيجية تتعلق أساسا بالموارد والمكانة الجيوبوليتكية الفريدة للوطن العربي، وارتباط هذه الأهمية بصلب الاستراتيجيات الغربية في مفردات صراعها مع قوى الشرق ، لكن استهداف دول الجوار العربي أخذ منحى أكثر بعدا ، تمثل باجتثاث الأصل وصولا لإحلال ثقافة وهوية لا تقف عند حدود الاستحواذ على الموارد حسب ، وأنما تسعى أولا الى أكبر وأخطر عملية ألغاء للعرب كهوية وحضارة ووجود ودور ، الأمثلة بالدلائل عديد طبقا لفهم مغزى وأبعاد ونتائج فصول الاستهداف.
ولدت الدولة الاستيطانية الصهيونية في فلسطين كمخاض سياسات بريطانية سرية مع حليفها الفرنسي، بدأت بالتخطيط المبكر لها من خلال التحضير الميداني بدعم الهجرة اليهودية الى فلسطين عبر الدعم والتنسيق مع المؤسسات الصهيونية التي سبقت قيام الدولة (الهس ترودت والوكالة اليهودية والمكونات العسكرية) كانت ولم تزل الوظيفة الأساسية للدولة الصهيونية تتمثل أولا في أعاقة الوحدة العربية عبر أضعاف الأقطار العربية وجرها وأشغالها في حروب تمتص قدراتها المادية والبشرية،بواسطتها أو عبر الحلفاء الإقليميين، في فصول أعاقة مستمرة للنمو العربي.
القراءة العميقة لمغزى وأهداف اتفاقية سايكس ـ بيكو يشير بوضوح الى أنها عملية استباقية ، استهدفت تحقيق عدد من الأغراض، تمثل أولها الانتقال بمشروع بناء الدواة الصهيونية نحو خطواتها الإجرائية من خلال رسم الخارطة السياسية التفتيتية للامة ترافق معها أغراق فلسطين بموجات المهاجرين الاوربيين اليهود، لإيجاد الكتلة البشرية للدولة القادمة ، وتمثل الهدف الثاني لتلك الاتفاقية ضرب البؤرة العربية المؤهلة لبناء الدولة العربية في جزئها المشرقي، كون المشرق مثل أنذاك ، لجهة مستويات الوعي الجمعي مقارنة بباقي الأجزاء العربية، مستوى متقدم في الوعي القومي بما يؤهله لانبثاق الدولة العربية الواحدة في أطار العراق وسوريا الكبرى، مما استدعى القوى الاوربية التخطيط لفعل استباقي يجهض هذا الاحتمال، وهذا ما حصل لاحقا، حيث تم استيلاد دول رسمت حدودها طبقا لغايات تخدم مخططات الغرب الاستعماري، خلافا للوعود السرية التي منحتها بريطانيا لشريف مكة آنذاك في تكوين دولة عربية مقابل مساهمة الحسين بن علي في الجهد العسكري البريطاني ضد الدولة العثمانية.
الحلم العربي المدعوم بالحق كان على الدوام ضحية السياسات السرية والدبلوماسية المخادعة الممارسة من أعدائها، والهدف ظل على الدوام بجعل العرب كأمة في بوتقة جزر منعزلة تتقوقع في شرنقة قطريتها النظمية وتفعيل ضعفها بالزج بها لاحقا في صراعات بينية، مرة على حدود مصطنعة تستمد مرجعتيها من اتفاقية سايكس- بيكو، ومرة أخرى عبر استقطاب بعضها وأسرها في أطار المصالح الغربية على حساب الجزء نفسه وعلى حساب الامة.
في العصر الحديث، وعند بزوغ فجر حقبة أهمية مصادر الطاقة للاقتصادات الغربية، تماهى الغرب الاستعماري مع أهدافه القديمة باستهداف العرب في أثمن أجزاء الوطن لناحية الثروة وأجهاض احتمالات توظيف الثروة في التنمية، فتحركت الشركات النفطية الغربية لتستحوذ على المكامن النفطية في الخليج العربي وجزيرة العرب، ثم تلحق الاحواز العربية بالدولة الفارسية عبر اغتصاب هذا الجزء العربي (عام 1925) لتكون ليس فقط جزء من فارس وأنما أيضا لتتحول فارس من دولة شحيحة الموارد لا تمتلك القاعدة المادية بما يؤهلها للتدخل في الشأن العربي، حتى امتلكت بهذا الاغتصاب للأحواز القاعدة المادية الثرية ولتتحول الى لاعب أقليمي تدخلي يركز في سياسته الخارجية مبدأ التدخل في المحيط العربي وبالأغطية التي تناسب كل عصر من العصور، شاه إيران السابق بحجة حماية أمن الخليج العربي، ونظام ولاية الفقيه لاحقا بحجة الوصاية المزعومة على التشيع.
قراءة فصول صراع الامة بوجه أعدائها تكشف هناك نقاط التقاء مصالح إيرانية أميركية صهيونية، تتمركز حول هدف أضعاف العرب، وهو هدف أوضحته السياسات الممارسة سواء الأميركية منها أو الإيرانية، تجلت مراحلها الأولى في الموقف من العراق، حيث تماهى الموقف الإيراني مع الأميركي بالانغمار في تفاهمات اتسمت بالسرية للتحضير لاجتياح العراق، وبعد أن ماطلت إيران مطولا في عرقلة التوصل لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية، وحين عجزت عن تحقيق نصر عسكري باجتياح العراق قبلت وقف إطلاق النار اضطرارا ليس عن مبدأ ورغبة في التوصل الى اتفاقية سلام دائم مع العراق بانتظار متغيرات دولية وإقليمية تتيح لها إعادة أنتاج سياستها التدخلية تجاه العرب عبر البوابة العراقية.
الدوائر الغربية الاستعمارية والأميركية على وجه الخصوص، طبقا لما تكشف من وثائق، وضعت إيران في موضع استثمارها وتوظيفها كأداة تنفيذ إقليمية في إطار مفردات الاستراتيجية الأميركية الصهيونية تجاه الوطن العربي، تلك الاستراتيجية التي استلهمت ملامحها من تصورات ديفيد بن غوريون، عبر رسم وظيفة الدول التي تحيط بأطراف الوطن العربي (السنغال، إثيوبيا، تركيا، إيران) لتمارس سياسة قضم الأطراف فيما يقوم الكيان الصهيوني بالعمل ذاته من القلب.
أتيح لإيران طبقا لهذه الوظيفة، ولغفلة وعجز النظم العربية وضعفها البنيوي، الولوج الى النسيج المجتمعي العربي عبر الترويج للخطاب الطائفي، باعتبار هذا الخطاب أمضى أسلحة شرذمة المجتمعات العربية، مدعومة بالثروة المنهوبة من الاحواز العربية، فكان التوظيف والشحن الطائفي أحد أبرز أنشطة وتوجهات السياسة الخارجية الإيرانية، ليس في العراق حسب وإنما في أقطار دول الخليج العربي وسوريا ولبنان واليمن ومصر والمغرب والجزائر والى أي مدى يمكن أن تصل أليه اليد الإيرانية.
هذا النمط من الممارسة التدخلية الخطيرة رغم عدوانيها وعلانيتها لم تلاقي ممانعة من الدول الغربية الكبرى، بل على العكس تماما نجد دعم واضح لها، وليس بغريب في هذا السياق أن تكون لندن مثلا مرتعا لأهم المؤسسات المرتبطة بأيران المروجة بكل الوسائل للشحن الطائفي التدميري، ما دام هذا المنهج يقع في إطار التلاقي في المصالح بين الغرب وأدواته التنفيذية الإقليمية ومنها نظام ولاية الفقيه.
أدركت الدوائر الغربية المعنية بالشأن العربي (مراكز البحوث وخلايا التفكير ومطابخ التخطيط للسياسات) أن العراق بنظامه الوطني قبل الاحتلال بمواقفه القومية وفلسفة نظام الحكم ووزنه المؤثر يمثل الضمانة لعرقلة وأفشال الاستهداف الغربي والإقليمي للامة، ومن هنا بات ملحا، من وجهة نظرهم التخلص منه، ومن ثم ليصبح الباب مشرعا لتفعيل التدخل المباشر في كل أقطار الوطن الكبير، وبكل وسائله وبأعلى درجات الاستخدام والتوظيف الوحشي للأسلحة، المادية والنفسية والمخابراتية.
ما كان للفوضى المحسوبة والممنهجة أن تأخذ مدياتها التخريبية بالشكل الذي يسود المشهد العربي الان دون ضرب أهم مرتكز قوة مثله العراق على مدى ثلاثةعقود، فكان الحصار أولى مقدمات الاستهداف تمهيدا للغزو والاحتلال المباشر للإجهاز على القرار السياسي المستقل وتدمير القاعدة الصناعية والمعرفية، ثم الولوج الى أجزاء الوطن العربي لأكمال مشروع ألغاء العرب مجتمعين، نظما ومجتمع لأعاده أنتاج السيطرة والهيمنة الاستعمارية المباشرة.
كان العراق بؤرة الارتكاز في المنظومة العربية، لذلك فأن المساهمة الجادة للقوى والفعاليات السياسية الشعبية العربية في دعم المقاومة في العراق تمثل المدخل السليم والضروري لإعادة الفاعلية للعمل النضالي في عموم الوطن العربي الكبير عبر مركزة العمل وتصويب الهدف بعد أن تشتت هذه القوى بجزر سهل لأعداء الامة التعامل معها بسحبها نحو غايات بعيدة عن مشروع بناء الدولة القومية بديلا للدولة القطرية العاجزة بنويا مهما امتلكت من عناصر قوة منفردة، فتكامل العمل النضالي القومي وتوحيده أحد أهم مدركات الوعي بأهداف وأغراض الاستهداف المعادي الشامل.
مشهد اليوم الممارس، كشف بوضوح التقاء مصالح أعداء الامة، بعد أن تجاوزوا تناقضاتهم الثانوية لصالح الهدف النهائي الماثل بإلغاء الامة وأحلال بديل هجين يتقاطع جذريا مع حقيقة الامة.
الشرط الموضوعي الكفيل بالتصدي للخطر القائم المتفاعل مع مكوناته الدولية والإقليمية يتمثل في بناء منظومة تصدي عربي تحشد القوى العربية الحية لتتجاوز في قدراتها مستوى التحدي بكل أبعاده العدوانية.
لم يعد هناك من وسيلة لمواجهة تداعيات هذا الاستهداف المركب إلا من خلال العودة الى الجماهير العربية لبناء جبهة عريضة تؤمن بحق أمتها، ذلك الحق الذي يراد وأده بتحالفات وضعت الامة في أولويات جدول أعمالها، تمارس علنا كل أشكال العدوان الدموي في عموم أقطار الوطن الكبير.
لن تنهض الامة، إلا أذا ارتفعت الى مستوى التحدي بفعل جماهيري منظَّم يرنو الى الخلاص.





