أوراق مختارة من سجل العلاقات العراقية – الإيرانية 2

رعـد البيدر

في الورقة الأولى مَهَّدنا بتوضيح بعض المفاهيم المتعلقة بالعلاقات الدولية، وأشرنا باختصار إلى الدورة الثلاثية لعلاقات السلم والحرب وما قبلهما وبعدهما بين الدول ، ونوَّهنا بإيجاز إلى دور لاعبيها الأساسيين "الدبلوماسي، الجندي" في الحرب والسلم . 

في السطور التالية سنبيَّنُ أسباب تصَّفُح سجل العلاقات بين الدولتين الجارتين ، ليس انحيازاً مع أو ضد أحد طرفي العلاقة - تعاطفاً أو كُرهاً، انما هو بُسطُ حقائق وبيان وجهات نظر، ونترك الأحكام لذوي الألباب والضمائر .

لا نستهدف من تتابع أوراقنا الخاصة بعلاقات البلدين – نكأ الجروح القديمة ، لكونها لم تتماثل يوماً للشفاء التام بسبب عمق الطعنة وتجدُدِها، واستمرارية النزف ، لذا فمن الطبيعي أن تكون الصرخة بعمق وحجم الطعنة، وشدة النزيف بمساحة الجُرح ، وأن سخونة دم الضحايا الأبرياء لم تبرد يوماً ، وهموم آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم عاشت معهم بقية أعمارهم ، ودخلت معهم في لحود قبورهم  .... ثم أن كلمة الحق أولى بالقول ، وليس بالتكتم بها أو التغافل عنها أو النسيان لها، وقد قيل : السكوت في وقته صفة الرجال ، وقيل أيضاً: النطق في موضعه من أشرف الخصال.  وأفضل قول في الحق ما قاله الحق تبارك وتعالى:

" لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ"

﴿ الزخرف -78 ﴾

 نعلم عن بلدنا الحبيب - عراق الحضارات - ما مكنتنا منه مراحل الدراسة ، وطبيعة وتنوع الاختصاص الوظيفي، وخبرة سنوات العُمر، ونعترفُ سَلَفاً بأننا لسنا ممن يسمون أنفسهم خبراء بالشأن الإيراني ، لكننا نبحث عن الحقائق الموجودة في صفحاتِ كُتُبٍ تراكمَ عليها التراب وأهملها القراء . شفيعنا من البحث في هذه الكُتُبِ أننا ننشد إظهار ما تضمنته من حقائق ليطَلِعَ عليها القراء ، لأن قَدَرُ بلدنا أن يكون طرفاً في نسيج هذه العلاقة الدولية " الثنائية " المتشابكة غزلاً والمتعثرة سيراً . من أجل هذا فأن غايتنا من تصفح ما احتوته المصادر المتنوعة تنحصر في عِدَّة أسباب منها:

 أولاً : الرغبةُ باستزادةِ المعرفةِ عن خفايا علاقات البلدينِ فأوجَبَ الاطلاع على جوانبٍ موَّسعة من المراجعِ العربيةِ والمُعَرَبةِ والأجنبية.

ثانياً : طموحُنا في إظهارِ طبيعةِ العلاقاتِ العراقيةِ - الإيرانيةِ عِبرَ الزمن في محاولةٍ لكشفِ: التزييفِ والتحريف، والاجتزاءِ في النصوصِ والتصريحات التي غَدَت غيرُ مقنعةٍ للكثيرينَ، فقطَعَت عليهم سبيلَ التوَّصلِ لحقيقة ِعلاقات البلدين.

 ثالثاً : الاجتهاد في محاولة سعي للوصولِ إلى تفسيرٍ منطقيٍّ للُغز المُحير عن أسبابِ كونِ الأزماتِ والشكوكِ كانت ولا زالت متبادلةٌ، وهاجسٌ دائميٌ في علاقاتِ البلدين. فما هي حقيقةُ أطماع هذا الجانبِ تجاه الجانب الآخر؟.

رابعاً : السعيُ للاهتداءِ إلى أحدِ السُبُل الموَّصِلة إلى الإجابةِ على السؤال أو ( اللُغز) المُحَيِّر - الذي من خلاله يمكنُ إزالةُ الغموضِ أو لنقل بعضاً من الغموض على أقلِ تقدير.

 خامساً : كشف الزيف والتشويه الذي أصابَ كثيراً من المدوَّنات التاريخيةِ، فتسبب باختلاف القناعات فيها ، وبالتالي غدا البعضُ ينظرُ إلى أحداثِ الزمنِ الغابرةِ ليسَ كما وقعت حقيقةً، وإنما وفقَ ما يفهمه من تفسيراتٍ خاطئةٍ لها من جراءِ تحريفِ الحقائق ، فبدأ أولئك البعض المُخَطَّئون (المتسممون فكراً) يبحثون في جذورِ الماضي، ويعكسون قناعتهِم بكل ظواهرها السلبية أو الإيجابية على الحاضر في تغافلٍ تام ومطلق عن أن معظم َتفاعلاتِ الماضي بأخطائها أو صوابها هي من أفعالِ الأموات ، فلماذا تُفرَّغُ شحناتُ البغضاءِ والكراهيةِ على الأحياءِ ؟ من الذين لم يعيشوا زمنها ولا فضلَ لهم بصوابها مثلما لا ذنبَ لهم بأخطائها.

 سادساً : علاقة وارتباطِ إيران بمُجملِ الظروفِ الاستثنائيةِ والتحولاتِ السريعةِ وغيرِ المتوقعةِ التي أعقبت احتلالَ العراقِ عام 2003 ، ومسببات تأثيراتِ الاحتلال على مستوى علاقاتِ البلدين، وبالتالي انعكاساتهِ على التوازنِ والعلاقاتِ الإقليميةِ والدوليةِ حالياً.

 سابعاً : محاولةَ الوصولِ إلى تفسيرٍ مقبولٍ ومُنصِف لعلاقاتِ البلدينِ ، لذا سنعتمد المنهج التاريخي في دراسة الظاهرة السياسية ، مما سيتطلبَ القيامُ بتحليلٍ تاريخيٍّ وسياسيٍّ لماهيةِ الإشكاليةِ التي تخفي وراءها علاقاتٍ مرتبكةٍ قديماً وحديثاً - كانت فيها فتراتُ التأزمِ أكثرُ من فتراتِ السلام، وستقود العلاقة بين الحدث التاريخي والنتيجة السياسية إلى تفاعلات وانعكاسات متعددة الجوانب على مستوى البلدين منها: اجتماعية واقتصادية وعسكرية ونفسية وثقافية .

 تلك هي (7) دوافع تُمَّثِلُ مفردات غاياتنا من تصفح سجل العلاقات العراقية - الإيرانية ، وسنجتهد من أجل توضيحها ، لعلنا نصيب أكثر مما نُخطئ - بخلافِ مع من أخطأوا أكثر مما أصابوا في عرض علاقات البلدين (المسلمين – الجارين) - تعَمُداً أو جَهلاً في إظهار الحقائق .

 تتمثل أهميةُ الأوراق التي سننتقيها من سجل علاقات العراق وإيران بتعددِ الجوانب:

فأولها كونِها تُسلِّطُ الضوءَ على مفاصلٍ حيويةٍ في علاقاتِ العراق وإيران في الماضي البعيد، وما أعقبها من علاقاتٍ استجدَّت بحُكم التقادم الزمني إلى الوقتِ الحاضر، وسنبيِّن بموجب الثوابت توَّقُع العلاقاتِ المستقبليةِ بينَ الدولتينِ وانعكاساتها على وحدةِ العراق ِالوطنيةِ وسلامتها أرضاً وشعباً.

أما ثانياً ، فسنُرَتِبُ نتائجَ العلاقاتِ في الحُقَبِ الزمنيةِ بتبادلِ تأثير ِبعضُها على البعضِ بما يوصلُ القارئُ إلى بناء ٍمعرفي يُمَكِّنهُ من التعَّمُقِ لو أراد - استدلالاً بالحدثِ والتاريخ ِوالمصدرِ الذي استُنبِطت منه المعلومةِ.

وثالثاً : سنُبِّينُ السياساتِ الصائبةِ والخاطئةِ للحكوماتِ على ضوءِ الوقائع والأدلةِ التي سنستعرضها ، وعلاقاتِ البلدينِ مع الاتحاداتِ والمنظماتِ في الإطارِ الدولي والإقليمي، ونتائجها في الخسائرِ البشريةِ والماديةِ والمعنويةِ لشعوبِ البلدين.

رابعاً : إظهارُ التعدديةِ في الرأي بأسلوبٍ منهجي علمي اعتماداً على النادر ِمن المصادرِ المحايدةِ  لاسيما في الحُقَب الزمنية المتأخرة ، أو مما لم يُنشَرُ عنه لغايةِ الوقتِ الحاضر من مصادرَ ذاتِ قيمةٍ موضوعيةٍ وعلميةٍ تُعتمدُ كمرجع ٍمقبول في التدوين أو الدراساتِ والمناقشات ( المُحايدة ) ونؤكد على كلمة المحايدة التي وضعناها بين هلالين .

والأهمية الخامسة : بتنوع المعلوماتٍ التي ستتضمنها الأوراق منها: تاريخيةٍ وجغرافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ، ووثائقَ وإحصائياتٍ مُدَّونةٍ أو بإشارةِ لكيفيةِ الاطلاع عليها من مصادرَ أخرى، وإفاداتٍ تُناقضُ أو تُؤيدُ أراءً مطروحةً كانت مُتداولةٌ بصورة ٍمُشوهةٍ لغاياتٍ تُخفي ورائها طمسُ الحقيقةِ في وحلِ المصالحِ السياسيةِ ، إرضاءً للساسة والحُكام وأصحاب العمائم - بَعيداً عن مخافة الله والقيَّم ِوالمُثلِ والأمانةِ في التدوينِ أو الطرحِ.

سنجتهد بأن نزوِّدَ القارئ بمعلوماتٍ تُمَّكنهُ من تحديدِ أي الطرفينِ كان صائبٌ وأيهما مخطئٌ ؟  وأيهما كان طامعٌ، ومن هو مُطمعٌ به؟ ومتى نشَّطت الأطماعُ ؟ ومتى خَفَّت؟ وما هو واقعها الحالي؟ وما هي مسبباتُ انحدارِ العلاقاتِ بين البلدينِ في ظلِ الحكومةِ الإيرانيةِ الحالية ِ، والحكومةِ العراقيةِ الآفلةِ ؟ ......... وصولاً إلى حربِ البلدينِ التي أفرزت نتائجَ ومستجداتٍ غيَّرَت الوضعَ الإقليمي في ثلاثِ عقودٍ من الزمنِ . وفي ظلِ ما أمسى عليهِ العراقُ من وضعٍ سيءٍ بعدَ الاحتلال ِالأمريكيِّ أُضيفت إشكاليةٌ جديدةٌ للمشاكلِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ هي إشكاليةُ الوجود الأجنبي المُكَّثف، فتسببت في استقطابِ ساسةِ العراقِ الجدد من قِبَلِ أكثرِ من جهةٍ خارجيةٍ، ونَتجَ عنه انقساماتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ عَمَّقت فَجوةَ الأزمةِ العراقيةِ، وتسببت بتأخيرِ تجاوزها وهو انعكاسُ إشكالٍ جديدٍ سنسعى لتوضيحهِ.
سنبتعدُ عن استخدامِ المفاهيم ِوالمصطلحاتِ غيرِ المتداولةِ، وإن استوجبَت الضرورةُ لبعضِها فسنشير إلى ما يُفسِّرها لإزالةِ أيِّ غموضٍ يُربكُ النص.

بالرغم ِمن أنَّ الهدفَ العامَ بتصفح سجل العلاقات العراقية – الإيرانية هو التحليلُ السياسي لكنَ الترابطَ سيوجِبُ في مواضع ٍمُنتخبةٍ تحليلاً أو توسعاً بسيطاً في جوانبٍ غيرِ سياسةٍ مُتوَّخين تأمين الوضوحِ، وإظهار رافدٍ مؤثرٍ يَصبُ في المُعطياتِ والنتائج ، لهذا فالأورق التي سنتطرق إليها مساهمةٌ متواضعةٌ في العلاقاتِ الدوليةِ بين البلدين تساعدُ كُل من يبحثَ عن الحقيقةِ في زمنٍ تُغيَّبُ فيه الحقائق بقصدٍ، أو تُظهَرُ بخلافِ واقعها للبسطاءِ، وغير المُتعَّمقينَ في متابعةِ ما يَستجدُ من أحداث.

 

من المتوقع أن يستشعر القارئ اختلافاً في رؤيته مع بعض ما سيقرأه من حقائق وآراء وتحاليل، وذلك اختلاف طبيعي ناتج عن نوعية مصادر الاطلاع أو من المعايشة مع الأحداث أو المشاركة فيها - خصوصاً الأخيرة منها ، أو قد يكون الاختلاف بسبب التشَّبُع  بعاطفة ( ساذجة ، عمياء ) لا ترى ولا تسمع إلا ما ترَسَّخ فيها من تلقين مخطوء وزائف فصار البعض القليل ( أعمى گلب كما يقال في الدارج من اللهجة العراقية ) مع احترامنا للأكثرية الناضجة المتفهمة أن شعوب البلدين ضحايا سياسات الحُكام .

باستبعاد الانزلاق العاطفي والتَّخندُق المذهبي والاثني ، فنحن نرحب بكل تقاطع في الرأي، ونَمتَّنُ لمن يرى وجود اختلاف مع ما سنبينه - يستند على حقيقة ، ويؤمن وضوحاً علمياً من مصدر موثوق...

وبالله الاستعانة لمن تَوَكل عليه، ومنه تعالى الهداية لكل ضال،  والتوفيق لكل مُحتسب .

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,621,394

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"