بعد مرور نحو شهرين من انطلاق الضربات الجوية العسكرية الأمريكية باسم التحالف الدولي على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا يتضح ضعف الاستراتيجية الأمريكية، سواء في طريقة محاربة داعش، أو في تحقيق الأهداف المعلنة عند قيام التحالف الدولي ضد داعش.
وبالرغم من تصريح جون ألين المبعوث الأمريكي المنسق للعمليات العسكرية بين الحلفاء ضد داعش بأن: الضربات الجوية قد حققت بعض النجاح وأنها أبطأت وأوقفت وتيرة تقدم داعش في سوريا والعراق، فإن هذه القراءة مجروحة أولاً لأنها تريد أن تعطي انطباعاً بأن القيادة الأمريكية في قيادة التحالف ناجحةً، بينما الحقيقة تقول بأن الضربات الجوية الأمريكية وبعد أكثر من 12 ألف طلعة عسكرية لم تقتل أكثر من 150 جندياً من تنظيم داعش في أحسن التقديرات، فمقارنة عدد القتلى مع الجهود المبذولة عسكريا من تحالف يضم أكثر من 60 دولة يعني أن أمريكا بين خيارين، إما أنها غير جادة في محاربة داعش، وهنالك من يصدق هذه المقولة وهم بازدياد، أو أنها عاجزة وضعيفة في استراتيجيتها العسكرية وغامضة ومريبة، وبالأخص بعدما رفضت حكومة العبادي العراقية مشاركة الطيران العربي بالإغارة على المواقع العراقية، وكذلك رفضها العلني مشاركة الطيران التركي بالطلعات الجوية فوق العراق، أي أن الحكومة العراقية برئاسة العبادي تقبل غارات التحالف من الأمريكيين والأوروبيين، ولكنها لا تقبل الإغارة على داعش فوق الأراضي العراقية من الأتراك والعرب، وهذا يصعّب المهمة على الإدارة الأمريكية، فهل كانت أمريكا تجهل هذه المواقف العراقية قبل نشوء التحالف، وبالأخص أن الإدارة السياسية الأمريكية في البيت الأبيض كانت تجري نقاشات سياسية مع الإيرانيين بشأن الملف النووي الإيراني، وتريد أن ترضي إيران في بعض السياسات طالما هي أبعدتها عن المشاركة المباشرة في التحالف.
ويمكن اعتبار التهم التي توجه بها نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لتركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة بأنها دعمت بالمال والتسهيلات التنظيمات المتطرفة في سوريا، ومنها تنظيم داعش، ولما كان الرد التركي من الرئيس أردوغان قاسياً وحازماً في أول أيام عيد الأضحى المبارك بتاريخ 4/10/2014، بقوله "إن صحّت هذه التصريحات عن نائب الرئيس الأمريكي فإنها ستجعله من الماضي"، أي أن تركيا لن تتعامل مع هذا الشخص بعد الآن، مما أضطر نائب الرئيس الأمريكي بادين إلى الاتصال بأردوغان والاعتذار منه، واعتبار أن تصريحاته تم تحريفها، والظاهر أن السياسية الأمريكية أرادت من هذه التصريحات غاية معينة، وفي الغالب أنها أرادت أن ترفع عن نفسها الحرج والمسؤولية عن الفشل الذريع حتى الآن في محاربة داعش، وبالتالي أمام الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي أرادت ومعها الحزب الديمقراطي الحاكم أن يستبقوا الأحداث والتهم التي سوف توجه إليهم من الجمهوريين بعجزهم عن قيادة تحالف ناجح وفعّال في التحالف الدولي ضد داعش، فالجمهوريون يكيلون التهم منذ الآن بفشل أوباما بوضع سياسة ناجحة في سوريا والعراق، فأراد الديمقراطيون أن يجعلوا بعض الحلفاء مسؤولين عن تسلح داعش ومدها بالمال والعتاد وغيره، وهذا ما أغضب تركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة، لأنهم مشاركون في التحالف الدولي ضد الإرهاب وضد داعش.
والإشكالية الأخرى التي تواجه السياسة الأمريكية أن الحلفاء أنفسهم وبالأخص العرب والأتراك غير راغبين بإرسال قوات برية إلى معارك مجهولة النهاية والمصير على الأرض، فالرئيس الأمريكي منذ أشهر وهو يقول للشعب الأمريكي أنه لن يرسل أي جندي أمريكي للقتال على الأرض، فإذا كانت الدولة القائدة لهذا التحالف لن ترسل جنديا واحداً فكيف يتشجع غيرها بإرسال جنوده، وبالأخص أن الدول العربية تخشى إن لم يقتل جنودها المرسلين من داعش فإنهم سوف يقتلون من المليشيات الطائفية في العراق التي تتبع المالكي أو غيره من قادة المليشيات الطائفية في العراق، أو سوريا، لذلك فإن أمريكا والدول الأوروبية في أزمة حقيقية في نوع الجنود البريين الذين ينبغي إرسالهم إلى العراق أو سوريا لطرد داعش من الأراضي التي تسيطر عليها.
والأزمة الأهم التي تواجه أمريكا هي المواقف التركية الحازمة والتي يعبّر عنها البعض باسم الشروط التركية الثلاث، بالمنطقة الأمنة والحظر الجوي عليها وترحيل كافة النازحين السوريين والعراقيين والأكراد إليها، وتأمينها من مهاجمة ميليشيات بشار الأسد أو غيره، ووضع حدٍّ لسلطة أسرة الأسد الدموية، فهذه الشروط التركية ترى تركيا أنها ضرورية للانضمام الحقيقي للتحالف، لأنها تريد أن تضمن سلامة المدنيين أن لا يكونوا ضحية تحالف دولي فاشل أو ناجح، فلا يجوز أن يكون المدنيون ضحية تحالف عسكري يريد حل مشكلة معينة فينشأ مشكلة أكبر منها، وعلى حساب الدولة التركي بالدرجة الأولى التي أصبحت تتقبل أكثر من مليوني لاجئ.
أما التعلق بالتخوفات الكردية، فإنها من وجهة نظر تركية أقل خطراً من الأخطار التي يمكن ان يتعرض لها المدنيون، ولكن تركيا تنبه بأن بعض الأكراد يريدون أن يتصيدوا في المياه العكرة لهذه الحرب فيحققون لأنفسهم مكاسب سياسية وعسكرية وتعاون متقدم مع الأمريكيين والأوروبيين على حساب الدول الثلاث التركية والعراقية والسورية، ومثال ذلك توجه مسلم صالح زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، والذي يعتبر امتدادًا حزب العمال الكردستاني في سوريا، ولديه جناح عسكري لا يختلف عن تنظيم داعش في شيء من حيث قيامه بالأعمال الإرهابية ضد المدنيين، فصالح مسلم ذهب للأمريكيين والإسرائيليين يطلب المساعدة والسلاح والعتاد، فكان الجواب الأمريكي عليه بأن يتفاهم على ذلك من خلال الحكومة التركية، أي أن أمريكا تدرك أن تحركات الأكراد تعمل على استغلال ظروف الحرب على داعش لتحقيق أهداف خاصة بهم، وفي هذا السياق جاءت تصريحات الرئيس التركي أردوغان فقال: "هناك أرضية مشتركة تجمع بين داعش وحزب العمال الكردستاني"، وقال ينبغي النظر لهما دون فصل بينهما، وحذر من استغلال حزب العمال الكردستاني للوضع في المنطقة.
إن التناقض في المواقف الأمريكية يعود بعضها إلى الأسباب السابقة، وبعضها الآخر إلى استخفاف أمريكا بإمكانيات داعش العسكرية والتقنية والاستخباراتية، ومرونتها وقدراتها على التحرك في أكثر من جبهة عسكرية، وظنها بأنها إذا فتحت باب القتال عن طريق الضربات الجوية سوف يُوجد الحماسة لدى المتطوعين الأتراك أو العرب للقتال ضد هذا التنظيم، ولكن عجز أمريكا عن تحقيق نجاح يناسب حجم الضربات الجوية التي قامت فيها قد أدخل الشكوك لدى الدول المتحالفة، وهذا قد يؤدي إلى تراجع التحالف عن الاستراتيجية السابقة، والعمل بالاتجاه الصحيح الذي تدعو له تركيا وهو معالجة أسباب الأزمة الحقيقية عند الأنظمة السياسية في العراق وفي سوريا، وضرورة إنجاح التسوية السياسية في هاذين البلدين، فإنهاء عهد السلطتين الطائفيتين في العراق وسوريا سوف يساعد كثيراً على حل مشاكل المنطقة، فالرؤية التركية ليس في صالح تركيا فقط، وإنما أصبحت ضرورة لمعالجة تناقضات الاستراتيجية الأمريكية العاجزة أو الغامضة.