في الإعمار سمٌ قاتل، فاحذروه

محمد سيف الدولة

عنوان المؤتمر هو إعمار غزة، ولكن هدفه الرئيسي على الأغلب الأعم هو اختراق غزة، ونزع سلاح المقاومة، وتمكين جماعة اوسلو والتزاماتها وترتيباتها من استرداد السيطرة والسلطة هناك، لتدير القطاع على غرار إدارتها للضفة الغربية، ادارة من الباطن لصالح الكيان الصهيوني وأمنه.

وهو الأمر الذى تم التأكيد عليه بوضوح في كل كلمات الوفود الرئيسية المشاركة في المؤتمر، حيث أكدوا جميعا على ضرورة تمكين السلطة "الشرعية" من إحكام سيطرتها على غزة كشرط للإعمار.

انه مؤتمر ينعقد على أرضية الأجندة الصهيونية ولو لم حضره الكيان الغاصب بنفسه، مؤتمر يستهدف وضع الخطط والآليات الدولية والإقليمية والعربية، لتنفيذ وتفعيل المطالب الصهيونية التي فشلت آلتها الحربية في تحقيقها.

***

ان الدولتين الراعيتين للمؤتمر وصاحبتي الدعوة الرئيسة له، هما مصر كامب ديفيد المنوطة بمراقبة غزة منذ 2005، والنرويج التي استضافت واحتضنت مفاوضات اوسلو عام 1993، التي عصفت نتائجها بـ 80 % من الحقوق الفلسطينية.

أما أهم الدول الكبرى المشاركة، فهى الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة وفرنسا بالإضافة الى الاتحاد الاوروبي، وكلها باركت العدوان الصهيوني الاخير على غزة، ودافعت عن حق كيان العدو في الدفاع عن نفسه، وطالبت بنزع سلاح غزة.

وهى ذاتها من أهم الدول المانحة التقليدية للسلطة الفلسطينية المشهورة باسم "المانحين"، التي دأبت على توظيف منحها وأموالها لتصفية القضية الفلسطينية على امتداد أكثر من 20 عاما.

وغالبية الدول المشاركة الاخرى، ان لم تكن جميعها، من الدول المعترفة بـ (اسرائيل)، صراحة أو ضمنا، المباركة لاتفاقيات اوسلو، المصرة على ان الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني هو السلطة، المُدينة او الرافضة للمقاومة وسلاحها ومواقفها الوطنية والسياسية.

وغالبية المنظمات المشاركة، هي اما من المنظمات التابعة والمرتبطة بالحلف الاستعماري الغربي الامريكي الراعى للكيان الصهيوني القائم منذ الحرب العالمية الثانية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، واما من المنظمات التابعة للأمم المتحدة التي تمثل الأداة الدولية الرئيسة في تصفية القضية الفلسطينية على امتداد ما يزيد عن نصف قرن، واما هى منظمات منزوعة السيادة والقرار والتأثير مثل جامعة الدول العربية.

***

اما عن الإشارات والرسائل التي سبقت عقد المؤتمر فمتعددة:

يأتي على رأسها بالطبع الاساس الذى سيقوم عليه المؤتمر، وفقا لتصريحات أهم الدول المشاركة، وهو القرار 1860 لمجلس الأمن الصادر عام 2009 والذى تضمنت نصوصه ما يلى :

  • ((وإذ يشير إلى عدم إمكانية التوصل إلى حل دائم للتراع الإسرائيلي - الفلسطيني إلا بالوسائل السلمية....))

  • ((وإذ يؤكد من جديد حق جميع دول المنطقة في العيش في سلام داخل حدود آمنة معترف بها دوليا......))

  • ((ندعو الدول الأعضاء إلى تكثيف الجهود الرامية لتوفير الترتيبات والضمانات اللازمة في غزة من أجل الحفاظ على وقف دائم لإطلاق النار وصون الهدوء، بما في ذلك منع الاتجار  غير المشروع بالأسلحة والذخيرة...))

***

وقبل ذلك كان المشروع الذى قدمته كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن رؤيتها للاعمار، بأن يتم تحت اشراف دولي ومنع تسليح حماس او فصائل اخرى وتشكيا الية دولية لمنع دخول المواد الممنوعة للقطاع وضمان عدم وصول مواد مثل الاسمنت والحديد الى المنظمات (الارهابية) واستخدامها فقط لإعادة تأهيل غزة، وضرورة عودة السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس الى القطاع وإمكانية عودة بعثة المساعدة الحدودية للاتحاد الاوروبي لمعبر رفح الى جانب الحرس الرئاسي الفلسطيني، وفقا لاتفاقيات المعابر الفلسطينية الاسرائيلية الاوروبية المصرية الموقعة في 2005.

وهو ما يتوافق تماما مع كل التصريحات الصادرة من ابو مازن بعد العدوان، والتي ركزت على توجيه النقد الحاد الى الاوضاع في غزة وحكومة الظل فيها، وتحميلها مسؤولية العدوان الصهيوني، والـتأكيد على ضرورة توحيد القرار والسلاح والسيطرة على المعابر تحت قيادة السلطة الفلسطينية وحدها.

***

ثم ما صرَّح به مسؤولون أميركيون كبار الجمعة، 10 اكتوبر، من التشكيك في أن يفي هذا المؤتمر بطلب الفلسطينيين بالحصول على أربعة بلايين دولار لإعادة بناء قطاع غزة، قبل ان تطمئن الدول المانحة الى استعادة السلطة الفلسطينية للسيطرة على القطاع الذى تهيمن عليه حماس حاليا.

***

بالإضافة الى ما قام به الكيان المحتل بعد العدوان من حشد للتأييد الدولي لارسال مئات من المراقبين الدوليين (الجواسيس) الى غزة لمراقبة حركة الاعمار هناك، وضمان عدم وصول أموالها الى ايدي المقاومة، والحيلولة دون استخدام مواد البناء في اعادة تشييد الانفاق مرة اخرى.

***

ومن ذلك ايضا التصريح الذى ادلى به رامي الحمد الله رئيس الوزراء السلطة الفلسطينية في السابع من سبتمبر الماضى، قبل ان يتراجع لاحقا، لتبرير عدم صرفه لمرتبات الموظفين في غزة، حين قال ((تم تحذير الحكومة والبنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية أنه في حال دفع هذه الدفعات لحكومة حماس السابقة في غزة سيتم مقاطعة الحكومة والشعب الفلسطيني، وسيتعرض النظام المصرفي الفلسطيني لإشكالية كبيرة تهدد الوضع الفلسطيني العام))

***

أضف الى ذلك بعض التصريحات الصهيونية الأخيرة على وجود اتفاق وتعاون مصري صهيوني لعدم دخول بعض المواد الى غزة مثل الأنابيب والمخارط ومعدات لف الحديد والسماد وما يمكن استخدامه في تصنيع الصواريخ لغزة.

ناهيك بالطبع عن الدور المصري التقليدي في مراقبة غزة وفقا لاتفاقية فيلادلفيا الموقعة عام 2005، وما أضيف اليه مؤخرا من تعميق وتكثيف التنسيق الامني المصري الصهيوني، والذي ظهرت آثاره بجلاء في هدم الأنفاق تحت الأرض مع إغلاق المعبر فوق الارض في سابقة لم يفعلها مبارك ذاته.

وهو الدور الذى أكده عبدالفتاح السيسى في كلمته الافتتاحية لمؤتمر الاعمار، حين أكد على أن الاعمار يقوم على محورين (شرطين)، أولهما هو التهدئة الدائمة، والثاني هو ممارسة السلطة الشرعية لصلاحياتها في القطاع.

***

ان الأجواء التي ينعقد فيها مؤتمر الاعمار تذكرنا بذلك الحشد الدولي الرهيب الذى ضم 70 دولة في شرم الشيخ في مارس 1996، بقيادة الرئيس الامريكي بيل كلينتون وحسنى مبارك، تحت عنوان براق هو "القمة الدولية لصانعي السلام في الشرق الأوسط"، والذى كان في حقيقته اجتماع طارئ لنجدة كيان العدو والتصدي للعمليات الاستشهادية الفلسطينية التي نجحت في إيقاع خسائر فادحة في صفوفه.

***

ان تداعي كل هذا العدد من الدول، وعلى الأخص الدول المعادية لفلسطين والمناصرة للعدو، تحت مظلة مزعومة هي اعمار غزة الذى دمرها العدو، هو تداعٍ مريب ومضلل، خاصة بعد حجم التجاهل الذى لاقته القضية الفلسطينية من ذات هذه الدول في الدورة الاخيرة للجمعية العامة للامم المتحدة المنعقدة بالأمس القريب.

وعلى كل القوى "الوطنية" الفلسطينية والمصرية والعربية، أن تنتبه وتحترس من أن تستدرج الى المشاركة في تحالف دولي آخر لاختراق غزة ونزع سلاحها وإكراهها على الدخول في التسوية والاعتراف بـ"اسرائيل" وتصفية المقاومة، وتوظيف الأموال والمنح والمعونات والدولار لتحقيق ما عجز عنه السلاح الصهيوني بالحرب.

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :135,628,592

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"